بيروت | Clouds 28.7 c

طوبى للغرباء / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

طوبى للغرباء / بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 20 حزيران 2024

 

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتبعوه ولا تتبعوا السُبل فتفرَّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتقون} سورة الأنعام.

وعن عمرو بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدين بدأ غريبًا ويرجعُ غريبًا فطوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سُنتي" رواه الترمذي.

لقد أرسل الله تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم في زمن انتشر فيه بين الناس الفساد وألِفُوا الشر وتمكَّن إبليس من رقابهم فقادهم، ولا يخفى ما كان عليه حال الناس في مجتمع الجاهلية، فقام إمام المرسلين سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الهدى والخير لإخراج الناس من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان بالله الواحد الذي لا مثيل له، ودعاهم إلى إخلاص العبادة لله تعالى وتصديق رُسُله الكرام فيما أُرسلوا به، وحقيقة الأمر أن دعوته المباركة صلى الله عليه وسلم كانت امتدادًا لدعوة كل الأنبياء عليهم السلام من قبله إذ لم يأت بدينٍ جديد لأنه لا دين صحيح إلا الإسلام، قال تعالى:{إن الدين عند الله الإسلام}سورة آل عمران. ولكن بعد أن انقطع الإسلام فيما بين الناس في الأرض اعتادوا الرَّدى واستهجنوا الهدى وقام نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بتجديد دعوة الأنبياء العظيمة فعجِب الكفَّار لذلك وظنوا أنه صلى الله عليه وسلم يدعو إلى شىءٍ غريب ولم تقبل عقولهم السقيمة أن يدعُوهم رجلٌ إلى عبادة إلهٍ واحد يُدبِّر الأمر في السموات والأرض، وهم الذين اعتادوا على عبادة مئات الأصنام، قال الله تعالى:{وعجبوا أن جآءهم منذرٌ منهم وقال الكافرون هذا ساحرٌ كذَّاب أجعل الآلهة إلهًا واحدًا إن هذا لشىءٌ عُجاب} سورة ص.

وفي هذه الأجواء الملبَّدة بالشر بدأ الإسلام في هذه الأمة غريبًا في قلة من الناس وكان أكثر أتباع النبي صلى الله عليه وسلم أول الأمر المستضعفين، وكان كفار قريشٍ في بُعدٍ سحيقٍ عن ذاك الهدي المحمدي العظيم ولكن أبى الله إلا أن يُتمَّ نوره فانتصر الحق واندحر الباطل وأشرقت شمس الإسلام، وهيهات أن يطمس نور الشمس كفٌّ أسود، ودخل الناس في دين الله أفواجًا وكان ذلك الانقلاب التاريخي المذهل وتهاوت مملكة إبليس وانهزمت جيوش الشياطين ونعمت الأمةُ بظلال الإسلام على امتداد القرون الطويلة، وقيَّض الله أئمةً جهابذةً وقادةًأفذاذًا يذودون عن حمى الشريعة ويدافعون عن أركان الدين، ولكن ما زال الخرق يتَّسع على الرَّاقع في مدى الأزمان وينبري زنديقٌ من هنا ومنافقٌ من هناكوملحدٌ لئيمٌ، أكل الحقد على الإسلام قلوبهم، ظاهرهم مسكينٌ وباطنهم سكِّين، ومع موت العلماء عبر التاريخ ساد الجُهَّال شيئًا فشيئًا وما زال الرَّعاع يثِبون على مواقع ليسوا أهلًا لها حتى رجعت الغُربة وعدنا غرباء وسط مجتمعٍ مظلمٍ ووسِّد الأمر غير أهله.

الغرباء المصلحون

فكم نسمع من فتاوى باطلةٍ من أناسٍ نصبوا أنفسهم أمناء على الأمة وهم لا يصلحون في الحقيقة لإدارة مدرسةٍ إبتدائية، وما أكثرهم وأكثر فتاويهم الشاذة في العقائد والأحكام، فواحدٌ يزعم أن الله لم يُقدِّر كل أعمال العباد وهو المدعو:محمد راتب النابلسي. وثانٍ يزعم أنه يوجد عدة خالقين ولكنَّ الله أحسن هؤلاء الخالقين مستدلًا بزعمه بقول الله تعالى:{فتبارك الله أحسن الخالقين} سورة المؤمنون. ولو انصف لوقف عند حده، ولو طلب العلم لعرف معاني كلمة "خلق" في لغة العرب ولسنا بصدد شرح ذلك في اللغة ولكن الخلق بمعنى الإبراز من العدم إلى الوجود لله وحده. وقائل هذا هو المدعو: علي منصور الكيالي. ومفسد آخر يدافع عن إبليس فيدَّعي أن إبليس لم يكفر وهو المدعو: عمرو خالد. وكل ذلك ثابتٌ في تسجيلات لهم بأصواتهم، وقد كذَّب هؤلاء الثلاثة قول الله تعالى:{والله خلقكم وما تعملون} سورة الصآفَّات، وقوله:{الله خالق كل شىء} سورة الزُّمر، وقوله:{إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين} سورة البقرة، وغير ذلك من نصوص القرآن والحديث. أضف إلى إفكهم ما أفسدت فرقٌ كثيرةوأصحاب ألقاب وشهرة كبيرة في أمر الأمة، فكم نفَّروا من أناسٍ وكم أضلُّوا من عباد وكم نرى من بدعٍ منكرةٍ وأهواء فاسدةٍ وأعمالٍ تخريبيةٍ بل وإجرامية من بعض أدعياء الغيرة على الدين والدينُ منهم ومن أفعالهم براء، وكم نرى من أناسٍ انسلخوا من الدين وخلعوا ثوب الاستقامة وراحوا يمارسون الإثم ويُدافعون عن أنفسهم بأن الدين يُسرٌ وأن العبرة بنظافة القلب بينما قلب أحدهم أسود من القطران، ومعرفة أصحاب البصيرة بصحة ما أقول تُغني عن ضرب الأمثلة التي لو أردنا تتبُّعها لطال المقال جدًا.

وتجاه ما يبُثُّه أهل الضلال من السمِّ في الدَّسم وما يزخرفه أصحاب البدع وما يُلقيه أشباه العلماء الذين لم يسبق لهم تحصيلٌ علميٌ معتبرٌ ولا وزن لهم في ميزان حملة الشريعة صرنا نرى أكثر الناس ما بين مخدوعٌ بمقالاتهم أو ساكتٍ لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، وقلَّ أن نجد من يتصدَّى لإصلاح ما أفسده هؤلاء الشياطين، وإذا ما انبرى للإصلاح أحدٌ كان في نظر أكثر الناس غريبًاوشاذًّا وصار الحال كما قال القائل:

وسمَّيتني باسم المفنَّد رأيه                          وفي رأيك التفنيد لو كنت تعقل

والتفنيد هو اللوم وضعف الرأي.

وإزاء ذلك فطوبى لمن اختار أن يكون من الغرباء فاتَّبع الدليل فصلَحَ وأصلح من موقعه وعلى مستوى مسؤوليته وقدر استطاعته وصبر على زمنٍ القابض فيه على دينه كالقابض على جمرٍ بل أشد، فلأن تكون غريبًا بين الناس مرضيًّا عند الله فلا ضير عليك. ومن اختار السُبُل الملتوية فإن القيامة أمام الجميع، وقد أمرنا ربنا تعالى باتِّباع الصراط أي الطريق المستقيم وعدم الانحراف عنه أمام مغريات الحياة.

قال أبو حيَّان في "البحر المحيط" في الآية أول المقال: "فاتبعوه أمرٌ باتباعه كُلِّه،والمعنى: فاعملوا بمقتضاه من تحريمٍ وتحليلٍ وأمرٍ ونهيٍ وإباحةٍ "ولا تتبعوا السبل فتفرَّق بكم عن سبيله" قال ابن عباس: هي الضلالات قال مجاهد: البدع والأهواء والشبهات".

والحمد لله أولًا وآخرًا.