بيروت | Clouds 28.7 c

المرء على دين خليله / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

المرء على دين خليله / بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 19 أيار 2022

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: {الأخلَّآء يومئذٍ بعضهم لبعضٍ عدوٌ إلا المتقين} سورة الزُّخرف.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المرء على دين خليله فلينظُر أحدُكم من يُخالل" رواه الإمام أحمد.

إن من أهم المهمات اختيار الخليل الصالح ليكون عونًا لصاحبه على الخير فيُذكِّره إن نسي ويُرشده إن ضلَّ ويُقوّمهُ إن اعوجَّ ويُواسيه بنفسه وبماله عند الشدة فيكون له بمثابة الأخ وإن كان من أبوين آخرين، ولربما كان الصديق سببًا في هداية صديقه فسلك به سُبُل الهدى وأخرجه من الظلمات إلى النور كما فعل سيدنا أبو بكر الصدِّيق مع أصحابه حيث آمن فأحب لهم الخير فراح يدعوهم إلى الرشاد فأسلم على يده خمسة من العشرة المبشرين بالجنة هم: عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوَّام وسعد بن أبي وقاص وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم. ومن المهمات كذلك الابتعاد عن صاحب السوء الذي يُزيِّن لصاحبه الشر والباطل ويُغويه ويسلُك به دُروب الردى، ولربما كان الصاحب أحيانًا سببًا في غَواية صاحبه واستحقاقه العذاب الأليم، فينبغي للمرء أن يحتاط في انتقاء أصحابه لا سيما في هذا الزمن الذي قلَّ فيه الصدق والوفاء وكثُر فيه الإفك والبغي والمداهنة والخيانة لأغراضٍ دنيويةٍ رخيصةٍ. وليُعلم أن كلَّ خُلَّةٍ في الدنيا ستنقلب عداوةً على أهلها يوم القيامة إلا خلَّة المتقين كما دلت على ذلك الآية أعلاه، فيفر المرء ذلك اليوم من أخيه وأمه وأبيه وزوجته وبنيه إلا من كانوا من المتقين أي الذين أدوا الواجبات واجتنبوا المحرمات.

أحسِنْ اختيارَ صاحبك

وفي الحديث المذكور دلالةٌ صريحةٌ على الاعتناء بحسن اختيار الصاحب لأن المرء كثيرًا ما يتأثر بصاحبه إذ يدلُّه على درب الفلاح أو يحمله على طريق الغَواية. لذلك ينبغي للعاقل أن ينظر مليًّا ويتأنى جيدًا ليُحسن اختيار خليلهفلقد قيل: "الصاحب ساحب إما إلى الجنة وإما إلى النار" وأغلب الناس على خلاف المروءة والاستقامة، وقد رُوي أن الإمام الشافعي قال: 

مررت على المروءة وهي تبكي                    فقلت علام تنتحب الفتاة

فقالت كيف لا أبكي وأهلي                     جميعًا دون خلق الله ماتوا

فشبَّه الشافعي المروءةَ بفتاةٍ مات أهلها في زمانه فكيف بنا في هذا الزمن وقد فسد أكثر الناس فقلَّ أن تجد فيهم صديقًا صدوقًا ذا مروءة يحفظ المعروف ويتقي الله تعالى في أصحابه. ومن كان حريصًا على انتقاء الأصدقاء والإخوان فينبغي أن يُراعي فيمن يختارهم خمس خِصالٍ هي: العقل والصلاح والصدق وحُسن الخُلق وعدم الحرص على الدنيا. فلا تصاحب الأحمقَ وهو الذي يريد أن ينفعك فيضرك بسوء تصرفه وقُبح صنيعه، فإن الأحمق لا يُجيد التدبير لنفسه فكيف سيكون عونًا لك على الخير ولعله جرَّك إلى حتفك من حيث يظن أنه يُحسن إليك.

ولا تصاحب سيئ الخُلق فإنه لا يملك نفسه عند الغضب والشهوة وقد ينسى ما بينك وبينه من المودة عند الغضب فيؤذيك أو تحمله شهوة النفس على إلحاق الضرر بك لقضاء وطره، فإنه ليس له خُلُقٌ صالحٌ يردعه عن ذلك وكم أدى سوء الخُلق إلى ما لا تُحمد عقباه بين من كانوا أصحابًا وأصدقاء.

ولا تُصاحب فاسقًا لا يتورَّع عن مُقارفة الذنوب فإن من تعدَّى حدود الشرع ولم يلتزم ما أمر الله به لن يحفظ الصحبةَ ولن يكون لك كما تُحب فإن من لا يخاف الله لا تُؤمن شُروره، بل يتغيَّر عليك بتغيُّر الأحوال ثم إنَّ مُجالسة الفاسق وكثرة الإنصات إليه ومُخالطته كثيرًا ما تُهوِّن على المرء الوقوع في الحرام فقد جاء في "الإحياء" للغزالي أن الإمام جعفر الصادق قال: "لا تصحب الفاسقَ فإنه يبيعك بأكلةٍ أو أقل منها، فقيل: وما أقل منها؟ قال: الطمع فيها ثم لا ينالها".

ولا تُصاحب الكذَّاب فإنك لا تأمن خِداعه وهو مثل السراب يظنه العطشان ماءً فإذا ما خالطه لم يجد فيه بُغيته فالكذَّاب يُقرِّبُ منك البعيدَ ويُبْعدُ منك القريبَويُصوِّر لك الزجاجَ لؤلؤًا، يدلك على ما يزعم أن فيه صلاحك ونفعك بينما هو في حقيقة الأمر يدلك على ما فيه هلاكك وضررك.

ولا تصاحب الحريص على الدنيا فإن صحبته سمٌ قاتل فلا يحثك على الاستعداد للآخرة ولا يدعوك إلى ما يُقرِّب إليها بل يدفعك إلى الغرق في بحر الدنيا بحثًا عن طرق تحصيل لذَّاتها الفانية، وإنما مثل الدنيا والآخرة كمثل ضرَّتين إن أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى.

بماذا تُخالط الناس

ثم إن لم تجد من الأصدقاء من اجتمعت فيه معاني الاستقامة فخالط الناس على حذرٍ واسعَ في الإصلاح ما استطعت فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يُخالط الناسَويصبر على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبرُ على أذاهم" أي أن المؤمن الذي يُخالط الناس فيأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر وينفعهم في دينهم ويتجمَّل بالصبر على ما يناله من الأذى خيرٌ من ذاك الذي يعتزل الناسَولا يتأتى منه كل هذا الخير. وفي هذا الحديث حضٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم على مخالطة الناس أي لإرشادهم وحمل من ضلَّ طريقَ الحق إلى سبيل الحق وبذل النصيحة لهم فإنك إن فعلت ذلك رجوت أن تجد فيهم بعد ذلك من يصلُح للصحبة والصداقة وإن لم تجد كنت داعيًا إلى الهدى مفتاحًا للخير مغلاقًا للشر عاملًا بما يُصلحك ويكون ذخرًا لك في آخرتك. واعلم أنك إن لم تجد رفيقًا يؤاخيك وتستفيد منه فإن الوحدة خيرٌ من جليس السوء، وقد روي عن الصحابي الجليل أبي ذرٍ أنه قال: "الوحدةُ خيرٌ من الجليسِ السوء والجليسُالصالح خيرٌ من الوَحدة".

وجملة الناس كما قال الشاعر:

الناس شتَّى إذا ما أنت ذُقتَهُم              لا يستوون كما لا يستوي الشجر

هذا له ثمرٌ حلوٌ مذاقته                    وذاك ليس له طعمٌ ولا ثمرُ

 

والحمد لله أولًا وآخرًا.