بيروت | Clouds 28.7 c

مرة أخرى: السعودية في مواجهة أميركا / بقلم: محمد خليفة

أم على قلوب أقفالها..؟!

 

مرة أخرى: السعودية في مواجهة أميركا / بقلم: محمد خليفة

ما تعرض له الصحافي العربي جمال خاشقجي, جريمة سياسية وأخلاقية وانسانية مدانة بصرف النظر عمن اقترفها, ولا بد أن يأخذ العدل مجراه فيها. ولكن من غير المقبول أن تصبح ذريعة لإعلان حرب على المملكة العربية السعودية سياسية واعلامية واقتصادية من دول كبرى وإقليمية عديدة.

 لقد انحرفت القضية عن محورها, ووظفتها دول معادية للمملكة توظيفاً خبيثاً للضغط عليها لأهداف سياسية. وأبرز مثال على ذلك استغلال الرئيس الاميركي للقضية في بورصة الانتخابات الكونغرسية  وممارسته البلطجة والابتزاز المالي كنهج ثابت في تعامله مع السعودية .

خطابات ترامب الشعبوية ولغته السوقية في حديثه عن الملك سلمان لا تنم عن حمق وانحطاط وحسب، بل تنم قبل كل شيء عن عقلية عنصرية متأصلة, ونظرة عدائية تقليدية للسعودية والعرب. ومع أنه استعمل الاسلوب نفسه مع القادة الأوروبيين, بمن فيهم ميركل, إلا أن اساءاته للملك تجاوزت سوابقها, وكانت استثنائية جداً, بشذوذها عن سياق العلاقات بين الدولتين والقيادتين, ولا سيما منذ فوزه بالرئاسة بخاصة, واختياره الرياض أول محطة خارجية له, والصفقات الضخمة التي أبرمها مع المملكة.

وقد أخطأ من تصور ولو للحظة، أن السعودية يمكن أن تسكت على هذه اللغة السوقية, حتى وهي صادرة عن رئيس الدولة الأقوى. فجاء ردها سريعاً وحازماً, وهدد بعقوبات مضادة لأي عقوبات قد تفرض عليها.

وأعطى الرد مفعوله بسرعة, ولجم الرئيس الأحمق والمتهور, فغير لغته وتأدب في حديثه, وامتدح الملك سلمان. وجنح صناع القرار الفعليين للجنوح للعقلانية والسلوك الديبلوماسي, وقرروا إرسال وزير خارجيتهم مايك بومبيو على عجل الى الرياض, لعلاج مضاعفات الأزمة التي سببها ترامب بعنجهيته وتهوره.

الربط بين قضية خاشقجي, والحملة على السعودية من عدة دول ربط خاطىء, وغير مبرر, لأن شبهة الاستغلال السياسي واضحة, وخصوصاً من الطبقة السياسية الاميركية المعادية تقليدياً للعرب. ولا أتوقع أن الضرر الذي أحدثه ترامب للعلاقات السعودية - الاميركية بتصريحاته المتهورة وتهديداته الجوفاء يمكن أن تكفيها حكمة بومبيو لتستعيد عافيتها, بل أتوقع أن تتعمق الأزمة, ما دام ترامب في البيت الابيض.

 وأعتقد أن السعودية ودول الخليج والدول العربية كافة قد تعلمت من تجربتها مع أوباما أن اميركا ليست حليفاً مخلصاً, ولا شريكاً أميناً, واستعدت للتحرر من أسر العلاقة الأحادية معها.

ومن يراقب سياسة الرياض الخارجية, ومشترياتها من السلاح يجد أنها تنوعت فعلا من الصين وروسيا وكوريا الجنوبية فضلاً عن بريطانيا وفرنسا واسبانيا والمانيا وايطاليا والسويد .. إلخ, مما يعني أن حكامها بدأوا منذ أعوام غير قليلة سياسة تنويع مصادر سلاحهم من الاسواق العالمية كما ألمح ترامب نفسه.

ولكن الأهم من تنويع مصادر السلاح تنويع التحالفات السياسية والاستراتيجية مع مراكز القوة الصاعدة, وخصوصاً الصين وبعض الدول الاوروبية, والدول الاسلامية والاقليمية, وفي مقدمها المانيا وتركيا وباكستان.

إن ما يتعرض له ((العرب)) جميعاً منذ عقدين, لا يمكن وصفه بأقل من مؤامرة كبرى متعددة الجبهات والاطراف والأساليب, ولذلك ينبغي أن يرتقي ردهم الاستراتيجي بالعودة الى سياسة التضامن العربي، بدءاً من مراكز القوة الرئيسية الباقية, ومعالجة الخلافات البينية, وتفعيل عوامل قوتهم في مواجهة أعدائهم الخارجيين, من ايران الى اسرائيل, ومن أميركا الى روسيا. ثم تفعيل وزنهم في العالم الاسلامي والقارة الأفريقية, وخصوصاً مع الدول الرئيسية فيه كباكستان واندونيسيا وماليزيا, والدول الافريقية الرئيسية كجنوب أفريقيا ونيجيريا وأثيوبيا.

العرب أقوياء عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وبشرياً, بل وعلمياً, ولكن قوتهم غير مستغلة بسبب تفرقهم. والسعودية أكثر الدول استهدافاً, لا بسبب ثروتها النفطية فقط, بل لأنها تمثل آخر القلاع العربية الباقية, وآخر مراكز الدفاع عن الأمن القومي العربي في مواجهة الاجتياح الايراني المنظم للمشرق العربي.

وفي تاريخ العرب الذي لم يتقادم ولم يمحِ من الذاكرة شواهد حية كثيرة, كحرب اكتوبر 73 التي مرت ذكراها الخامسة والاربعون, والحرب العراقية – الايرانية. والسعودية التي يستخف البعض بقوتها هي التي قادت الدول العربية لقطع النفط عن أكبر دولتين غربيتين, أميركا وبريطانيا, لمدة زادت على ستة شهور, وجعلت هنري كيسنجر يتوسل لإعادته. والسعودية كانت شريكاً قوياً لبغداد في حربها مع ايران, وشريكة لباكستان في قنبلتها النووية, وحليفاً للثورة الفلسطينية في نضالها المشروع, وللمجاهدين الافغان ضد الغزو السوفياتي, وكانت سنداً لجبهات الصمود العربية كافة ضد اسرائيل, وهي ما زالت تتزعم الدول الاسلامية الخمسين, التي تمثل أكبر كتلة في الأمم المتحدة ..إلخ .

 ولا بد أن صناع القرار في واشنطن لم يتفاجأوا ببيانات التضامن السريعة مع السعودية الصادرة عن العواصم العربية والاسلامية بعد بيان الرياض, فهم يعلمون وزن وقوة السعودية, وهي التي تصدت لوحدها لسياسة أوباما في الخليج, والشرق الاوسط في السنين السابقة.

اللحظة الحالية مواتية لإعادة بناء الكتلة العربية وإحياء التضامن في مواجهة كل من تسول له قوته وحماقته النيل من مكانة العرب, ومن مصالحهم وحقوقهم. ولعل أبلغ ما تضمنه الرد السعودي على ترامب قوله إننا لسنا بحاجة لحمايتكم المزعومة. وكذلك قوله بين السطور: أميركا بحاجة للسعودية أكثر من حاجة السعودية لأميركا. 

                     

الوسوم