ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمَزَة
بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 5 كانون الأول 2024
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى:{ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمَزَة} سورة الهُمَزة.
وفي "الدر المنثور" للسيوطي عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئل عن قوله تعالى ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمَزَة فقال: هو المشَّاء بالنميمة المفرِّق بين الجمع المُغري بين الإخوان" والإغراء بين القوم التحريش بإيقاد نار العدواة بينهم. والويل هو الهلاك والخزي والعذاب فالهُمزة المشَّاء بالنميمة المُفرِّق بين الإخوان واللمز الاغتياب وتتبع المعايب
وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال: كان أمية بن خلف (أحد رؤوس كفار قريشٍ) إذا رأى النبي صلى الله عليه وسلم هَمَزَه ولَمَزَه (يعني يعيب بزعمه النبي صلى الله عليه وسلم إفكًا والحقيقة أن النبي صلى الله عليه وسلم لا عيب فيه) فأنزل الله تعالى ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمَزَة السورة كلها.
إن من أقبح الأدواء المستشرية بين كثيرٍ من الناس اليوم الغيبة والنميمة والتحريش بإيقاد نار الفتنة بين الناس وهذا خطرٌ داهمٌ ينبغي التصدي له بالحكمة والموعظةِ الحسنة وقد جاءت نصوصٌ كثيرةٌ في التحذير من مثل هذه المخاطر التي تُحدق اليوم بكثيرٍ من أبناء مجتمعنا.
فعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "تدرون من المسلم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده. قال: تدرون من المؤمن؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: من أَمِنَه المؤمنون على أنفسهم وأموالهم والمهاجر من هجر السوء فاجتنبه". رواه الإمام أحمد
فالمؤمن الكامل من سلم الناس من أذاه في أنفسهم وأموالهم فلم يتعرض للمؤمنين بما يسوؤهم بيده ولا بلسانه بنحو الغيبة والنميمة والتحريش بإيقاد نار الفتنة بين المؤمنين وغير ذلك من الشرور وما أخطر ما يكون من اللسان من ذنوب وآثام وقبائح يربأ العاقل بنفسه عنها.
فالغيبة والنميمة من الذنوب القبيحة والأمراض الهدَّامة التي تفتك بالمجتمعات وقد عرَّف النبي صلى الله عليه وسلم الغيبة فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذِكرُك أخاك بما يكره قيل: أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟
قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بَهَتَّه" رواه مسلم. ومعنى "بَهَتَّه" ذكرتَه بما ليس فيه ويسمى هذا البهتان وهو أشد إثما من الغيبة لأن فيه كذبا.
فالغيبة التي حرّمها الله تعالى هي ذكرك أخاك المؤمن حيًّا أو ميتًا صغيرًا أو كبيرًا بما فيه مما يكرهه لو سمعه، سواء كان مما يتعلق ببدنه أو نسبه أو ثوبه أو داره أو خُلُقِه، كأن يقول قائلٌ: فلانٌ قصيرٌ أو كثير النوم أو كثير الأكل أو وسخ الثياب أو تحكمه زوجته أو نحو ذلك من كل ما يعلم أنه يكرهه لو سمعه. وقد اختلف العلماء في الغيبة فعدَّها بعضهم من كبائر الذنوب وبعضهم عدَّها صغيرة، والصواب التفصيل فيقال: إن كانت الغيبة لأهل الصلاح والتقوى أي كان الذين اغتابهم المغتابُ من أهل التقوى فتلك كبيرةٌ بلا شك، وأما لغيرهم فلا يُطلق القول بأنها كبيرة لكن إن اغتيب المؤمن الفاسق إلى حدِّ الإفحاش فتلك أيضًا كبيرة وذلك كأن يُبالغ في ذكر مساوئه لمجرد التسلية، وعلى ذلك يُحمل حديث أبي داود عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أربى الربا استطالة الرجل في عِرْضِ أخيه المسلم" فإن هذه الاستطالة من أشد الكبائر لأن النبي صلى الله عليه وسلم وصفها بأنها أربى الربا أي أنها في شدة إثمها كأشد الربا.
"ما أقبح الغيبة"
ويكفي في التحذير من الغيبة وشؤمها قول الله تعالى:{ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه} سورة الحجرات.
وفيه تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان أخاه ميتا فكما تكره أكل لحم أخيك ميتًا باستقامة العقل فأكره الغيبة باستقامة الدين.
وجاء في حديث الإسراء والمعراج عن أنسٍ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لما عُرج بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نُحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس (أي يغتابونهم) ويقعون في أعراضهم" رواه أبو داود. وأما النميمة فهي: نقل القول بين الناس للإفساد كأن ينقل كلامًا من زيدٍ لعمروٍ فيه قدحٌ بعمروٍ والعكس لإيقاع الفتنة والعداوة بينهما. وقد ذمَّ الله تعالى الخبيثة امرأة أبي لهبٍ بقوله:{وامرأته حمَّالة الحطب} سورة المسد. قال البخاري:"وقال مجاهد: حمَّالة الحطب تمشي بالنميمة" وعن محمد بن سيرين قال: كانت امرأة أبي لهب تَنُمُّ (تمشي بالنميمة) على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المشركين" ذكره ابن حجر في "الفتح" وقال الفرَّاء: كانت تَنُمُّ فتُحرش فتوقدَ بينهم العداوة فكنَّى عن ذلك بحملها الحطب" وعن حذيفة قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"لا يدخل الجنة نمَّام" متفقٌ عليه. وليس معنى الحديث أنه لا يدخل الجنة بالمرة إذ النميمة وكذلك الغيبة ليستا كفرًا إنما معناه: لا يدخل الجنة مع الأولين أي هو مستحقٌ للعذاب في الآخرة إن لم يتب قبل الموت.
فإذا عُلم هذا فليتق الله امرؤٌ وليحفظ نفسه من الغيبة والنميمة وسائر الذنوب فقد قال الله تعالى في وصف المتقين:{وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلامٌ لا نبتغي الجاهلين} سورة القصص.وقال أيضًا:{وإذا مرّوا باللغو مروا كراما} سورة الفرقان.
قال ابن جرير في جامع البيان: "ومسموعٌ من كلام العرب لَغيت باسم فلان بمعنى أولعت بذكره بالقبيح فالكيِّس من نظر بعين البصيرة فأخذ في تقويم نفسه وإصلاحها ولم يتشاغل بالقيل والقال كحال كثيرٍ من الناس اليوم ترى الواحد منهم غارقًا في مستنقعات الجهل والإثم والهوى وهو مع هذا لا ينفك يفتش عن عيوب الناس وبثِّها فقد روى البخاري في "الأدب المفرد" عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يُبصر أحدُكم القَذاةَ في عين أخيه وينسى الجِذْلَ أو الجِذْعَ في عين نفسه" والجذلُ أصل الشجرة والقذاةُ من القذى وهو الوسخ القليل يكون في العين.
والحمد لله أولًا وآخرًا