موعظةٌ للكبار / بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 8 اب 2024
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{أولم نُعمِّركم ما يتذكر فيه من تذكَّر وجآءكُم النذير} سورة فاطر.
ينبغي للمؤمن أن يسعى في طلب الخير والزيادة منه ما دام حيًا فعن أبي سعيدٍ الخُدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لن يشبع مؤمنٌ من خيرٍ حتى يكون منتهاه الجنة" رواه الترمذي. وإذا ما نظر الواحد منا في مدة الحياة الدنيا يجد أن العمر لا يسع كل شىء فربما قَدَّر المرءُ أن يفعل كذا وكذا فاخترمه الموت قبل ذلك، فالعاقل يُقدِّم الأهم ثم المهم حتى إذا أدركه الموت فجأة رحل إلى دار الآخرة على حالٍ حسنٍ لا سيما عند تقدم العمر وبخاصةٍ عند بلوغ ستين سنة فإنه أوان الخِتام وبحُسن اغتنامه يسعد صاحبه، فعن معاوية قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إنما الأعمال بخواتيمها" رواه ابن حِبَّان. فربما انقلب المرء من حالة السوء إلى حالةٍ حسنةٍ فمات عليها وربما ساءت حالته بعد حُسنٍ فمات على ذلك فلا ينبغي للمرء أن ييأس وإن كثرت ذنوبه بل يغتنم ما بقي من أيَّامه فإن الله تعالى يجزي على العمل الصالح القليل الثوابَ الجزيل. ومن جرت أيام عمره حتى بلغ آخره فليعتبر فكما ذهب الماضي سيذهب ما بقي وليتأمَّل في الآية أعلاه مرةً بعد مرةٍ فقوله تعالى "أولم نُعمِّركم" فإنه للتقرير كأنه قيل عمَّرناكم والمعنى: أولم نُعمِّركم ستين سنة، قاله حَبرُ الأمة عبد الله بن عبَّاسٍ والمحققون من المفسرين.وقيل: أربعين سنة، قاله الإمام الحسن البصري وغيره. ونقل كلا القولين النووي في "رياض الصَّالحين". ويؤيد القولَ الأول حديثُ البخاري عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة" معناه: أزال عُذره ولم يترك له عذرًا يعتذر به في ترك صالح الأعمال. قال الحافظ ابن حجرٍ في "الفتح": "الإِعذارُ إزالة العُذر والمعنى: أنه لم يبق له اعتذارٌ كأن يقول: لو مُدَّ لي في الأجل لفعلت ما أمرت به وإذا لم يكن له عذرٌ في ترك الطاعة مع تمكُّنه منها بالعمر الذي حصل له فلا ينبغي له حينئذٍ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية ونسبةُ الإِعذار إلى الله تعالى مجازية والمعنى: أن الله لم يترك للعبد سببًا في الاعتذار يتمسك به". وقوله تعالى "وجآءكُم النذير" قيل: النذير هو رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله تعالى بعثه بشيرًا ونذيرًا للناس،وقيل: النذير الشيب فالشيب نذير لأنه يأتي عند التقدم في السن وهو علامةٌ لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب وقُرب الرحيل عن دار الدنيا.
الشيب عنوان المنية
وفي ذلك قيل:
رأيت الشيب من نُذُرِ المنايا لصاحبه وحسبُك من نذيرِ
وقد كان أهل المدينة المنوَّرة إذا بلغ أحدهم أربعين سنةً تفرَّغ للعبادة وتخلَّى عن مشاغل الدنيا، قال القرطبي في "تفسيره": "قال ابن مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويُخالطون الناس حتى إذا بلغوا أربعين سنةً تركوا المخالطة واشتغلوا بالعبادة حتى يأتيهم الموت". قال تعالى:{حتى إذا بلغ أشدَّه وبلغ أربعين سنة} سورة الأحقاف. فالمرء يبلغ أشدَّه إذا صار إلى أربعين سنة وذلك منتهى مدة كمال العقل عادةً ويكون إلى هذا السن على الزيادة والنماء، فإذا ما جاوز الأربعين يأخذ في النقصان ولا يكون قد بقي من العمر إلا أقل مما مضى عادةً، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك" رواه الترمذي. قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي": "قوله: أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين أي نهاية أكثر أعمار أمتي غالبًا ما بينهما وأقلهم من يجوز ذلك أي يتجاوز السبعين فيصل إلى المائة". وعن أبي هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه قال:"مُعتَركُ المنايا ما بين الستين إلى السبعين" رواه البيهقي. وإنما كانت الستون حدًا لهذا لأنها قريبةٌ من معترك المنايا فينبغي لمن بلغ هذا السن أن يتزيَّن بالإنابة والخشوع أكثر فأكثر فإنه وقت ترقُّب المنية. والمعتَركُ موضع المعركة في الحرب واعتركوا ازدحموا والمراد كثرة موت الناس فيما بين الستين والسبعين.
وقد قيل: "من بلغت سنُّه سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فليتخذ لنفسه كفنًا" ومقتضى ذلك الإكثار من الاستعداد للموت. وقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن ثلاثٍ وستين سنةً قمريةً وتوفي لمثلها سيدنا أبو بكرٍ وسيدنا عمر. وكما يستكثر من علِم قربَ الرحيل عن مكة الصلاةَ في البيت الحرام والطوافَ خصوصًا إذا كان لا يُؤمِّل العود لعلوِّ سنه وضعف قوته فكذلك ينبغي لمن تقدمت به سنوات العمر أن يبادر إلى اغتنام اللحظات ويعمل للنجاة مما يقدُم عليه وهو الموت. وليت شعري كيف يغتر من أدرك الكِبَر فيلهو وهو يعلم أن الموت يدنو ولا يفكِّر بمن غيَّبه الموتُممن هم أصغر منه سنًا وأنه سيغيب كما غابوا، فأي عيشٍ يطيب لمن أيامه تُقرِّبه من منيته وأنفاسه خطاه إلى أجله وكلما زاد عمره نقص، والعاقل من صلى لله قبل أن يصلي عليه عبادُ الله وترك الدنيا قبل أن تتركه واعتبر بغيره قبل أن يكون عبرةً لغيره، فقد روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى صاحبه وابن صاحبه عبد الله بن عمر فقال: "كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل" وفي الحديث حثٌ على عدم الركون إلى الدنيا والاغترار بها وإن كان هذا لا يتنافى مع تعاطي أسباب المعيشة لكن ليس بحيث أن يقتحم المرء الموبقات اغترارًا بدنياه، وقد قيل:
يا خاضب الشيب بالحناء تستُرهُ سل الإلهَ له سترًا من النار
لن يرحل الشيب من دارٍ يُلمُّ بها حتى يُرحِّل عنها صاحبَ الدار
وروي عن سيدنا الإمام عليٍ عليه السلام:
الشيب عنوان المنية وهو تاريخ الكِبر
وبياض شعرك موت شعرك ثم أنت على الأثر
فإذا رأيت الشيب عمَّ الرأس فالحذر الحذر
والحمد لله أولًا وآخرًا.