بيروت | Clouds 28.7 c

مكة المكرمة قبل ظهور الإسلام ومكانة قريش فيها / بقلم عبد الهادي محيسن

مجلة الشراع 8 جزيران 2021

 

مكة بلد في واد غير ذي زرع تشرف عليها جبال سوداء ليس فيها ماء غيربئر زمزم ، أما المياه الجارية والعيون فليس لها وجود ، لذلك لم تصلح أرض مكة لأن تكون أرضا ذات نخيل وأعناب وزرع وحب ، ويعود الفضل في ازدهار مكة قبل الإسلام كمركز تجاري الى وجود الحرم فيها وهو المنطقة التي يحرم فيها كل أنواع العنف والقتل ، لذلك كانت القوافل تفد إليها دون أن يُمس أصحابها بسوء .

كان لموقع مكة الجغرافي حيث هي عقدة تتجمع فيها القوافل التي ترد من اليمن قاصدة بلاد الشام ، ثم ما لبث أهلها أن اقتبسوا سر السفر وفائدته فسافروا بأنفسهم على هيئة قوافل فما كان القرن السادس حتى احتكر تجار مكة التجارة غرب الجزيرة العربية وقدعلمت الأسفار سادة قريش أشياء كثيرة من أمور الحضارة والثقافة كما تعلموا من الحيرة أصول كتابتهم وهذبوا لسانهم ودونوا به أمورهم .

لقد كان لوجود الكعبة المشرفة قبل الإسلام أكبر الأثر في جعلها أعظم مركز ديني في الجزيرة العربية فكانت وفود الحجيج تقصدها من شتى أنحاء الجزيرة وكانت تقام حول الحرم في عكاظ وذي المجاز ومَجَنًة أسواق للتجارة والأدب والسياسة مما جعل مكة أكبر مركز إشعاع إعلامي في الجزيرة العربية وكانت لغتهم (لهجة قريش) هي الميزان وهي المرجع وكانوا أبلغ العرب وأفصحهم وأفضلهم تعبيرا ونطقا .

كل هذا جعل قبائل العرب تدين لقريش بالإجلال والإكبار وتعترف لها بالتفوق عليها وتسير في ركابها وتتبع تقويمها وتحضر في مواسمها ، ومما ساعد على سيادة قريش واحترامهم عند جميع العرب (حلف الفضول) وقد أخذت فيه قريش على نفسها الا تجد مظلوما في مكة إلا وتنصره ، ولا غريبا من الوافدين إليها إلا آووه وأنصفوه .

يعد قصي بن كلاب أول بان لمجد مكة وموطد لنفوذ قريش فيها ، وهو الذي استخلص أمر مكة وشؤون البيت من خزاعة في أواسط القرن الخامس لليملاد وجعل لها نوعا من التنظيم والإدارة ويذكر أهل الأخبار أن قصي بن كلاب هو الذي جمع قومه القرشيين من الشعاب والأودية والجبال الى مكة وحكم منذ ذلك الحين فيهم وملك عليهم فكان قصي أول ولد كعب بن لؤي أصاب ملكا وأطاعه قومه  .

ويذكر أن من جملة ما أحدثه قصي في أيامه وصار سنة لأهل الجاهلية ، أنه أحدث وقود النار بالمزدلفة حين وقف بها حتى يراها من دفع من عرفة فلم تزل توقد تلك النار تلك الليلة في الجاهلية وبعد الإسلام ومن أهم أعماله أنه ابتنى لنفسه دارا بالجانب الشمالي من مسجد الكعبة وجعل بابها الى المسجد وجعل منها مجلس شورى لقريش ودار حكومة لها وسماها دار الندوة .

كانت دار الندوة مجلسا للتشاور في أمور مكة وأمور قريش يبتون في شؤون الحرب والسلم وعقد المعاهدات والإتفاقات وإبرام عقود الزواج وماعدا أبناء قصي كان لايدخل دار الندوة من قريش إلا من بلغ سن الأربعين ، وينسب الى قصي تنظيم أمور مكة الداخلية والخارجية ولا سيما فيما يتعلق بخدمة البيت الحرام من وظائف ، فكان له الى جانب رئاسة دار الندوة : اللواء والحجابة والسقاية والرفادة .

لما كبر قصي وأحس بدنو أجله قال لولده البكر عبد الدارلألحقنك بالقوم إن شرفوا عليك !.. وأوصى له بما يليه من مصالح قريش : فأما اللواء فهو وظيفة تتعلق بشؤون الحرب وليس لها صبغة دينية وهو العَلَمْ الذي يحمل في المعارك ويدافع عنه أبناء القبيلة حتى الموت .

أما الحجابة : فهي حجابة الكعبة وكان القائم عليها يمتلك مفاتيح الكعبة فهو الذي يأذن للناس بالدخول اليها  .

أما السقاية : فهي جمع الماء من آبار مكة وحمله على الإبل بالقرب وسكبه في حياض من أدم (جلد) تحلى بالتمر والزبيب فيشرب منها الحجيج الواردون مكة .

وأما الرفادة : فهي طعام كان يصنع للحاج على سبيل الضيافة ، وكان قصي فرض على قريش خرجا تخرجه في الموسم من أموالها الى قصي فيصنع طعاما للحجيج ، يأكله من لم تكن له سعة ولا زاد ممن يحضر موسم الحاج ، وآلت هذه الوظيفة الى عبد مناف ثم آلت الى هاشم حتى انتهت الى أبي طالب فكان يقوم بها الى أن جاء الإسلام .

وهكذا فقد كانت الزعامة الدينية والدنيوية لعدة أبطن من بطون قريش ، انتهى اليها الشرف في الجاهلية ووصل الى الإسلام وهي هاشم وأمية وعبد الدار وأسد وتيم ومخزوم وعدي وجمح وسهم

 .عبد الهادي محيسن ... كاتب وباحث

الوسوم