لا تكن إمَّعة / بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 16 حزيران 2022
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم إخبارًا عن الكافرين: {وكنَّا نخوض مع الخائضين} سورة المدَّثر.
قال الطبري في "تفسيره": "يقولون كلما غوى غاوٍ غوينا معه". وعن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تكونوا إِمَّعةً تقولون إن أحسن الناسُأحسنَّا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطِّنوا أنفسَكم إن أحسن الناسُ أن تُحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا" رواه الترمذي. وعن عبد الله بن مسعود قال: "لا يكوننَّ أحدكم إمَّعة. قالوا: وما الإمَّعة يا أبا عبد الرحمن. قال: يقول: أنا مع الناس إن اهتدوا اهتديت وإن ضلُّوا ضللت ألا ليوطِّن أحدكم نفسه على إن كفر الناس أن لا يكفر" رواه الطبراني.
قال القاسم بن سلام في "غريب الحديث": "أصل الإمَّعة هو الرجل الذي لا رأي له ولا عزم فهو يُتابع كل أحدٍ على رأيه ولا يثبت على شىء". وقال ابن منظور في "لسان العرب": "لا عقل له إلا ما أمرته به لحُمقه".
لا تبع العزَّ بالذُّل
ولا شك أن هذا مرضٌ عُضَالٌ قد فتك اليوم بكثيرٍ من أبناء أمتنا لا سيما الناشئة منهم مع ما قد دبَّ فيهم أيضًا من الأسقام الأخرى فترى كثيرًا منهم يذهبون مع الأهواء افتتانًا بالمال أو الشهرة أو انتصارًا للهوى وينجرفون مع التيَّارات المضلَّة بُغية المكاسب المادية أو لعدم الخروج عن قرار الأسرة أو لأن كثيرًا من الناس انساقوا مع تلك التيَّارات فانساقوا معهم فهم مع الكم لا مع النوع، وتجدهم همجًا رعاعًا أتباع كل ناعقٍ يميلون مع كل ريحٍ يرون الباطل فلا يعملون على قمعه ويعرفون الحق فلا ينصرونه ويُعادون من لا يرى رأيهم.
وكثيرٌ من الناس فيما نرى كأنهم أداةٌ في يد غيرهم لا يستقلُّ أحدُهم برأيٍ ولا يرى لنفسه موقعًا إلا حيث يضعه فلان الفاسد بل ربما لا يتكلَّم أحدهم في المجالس ولا يدخل في علاقاتٍ اجتماعيةٍ مع الناس إلا بإذن فلان وتوجيهٍ منه، ويبيع عزَّة النفس بالمذلة في مقابل غرضٍ رخيصٍ من الدنيا كان أعزَّ نفسه لو استغنى عنه، أو يبيع نفسه دون مقابل شىءٍ سوى الانتصار لفلانٍ الفاسد فيصلح دنياه بفساد دينه وهذا سفهٌ، أو يصلح دنيا غيره بفساد دينه وهذا فعل سَفلة السَّفلة. وكم نرى منأناسٍ لا يرون إلا رأي الآخر وربما سبق أن صرِّح أحدهم بالأمس بخلاف ما يراه اليوم فإذا به بعدما انضوى تحت ولاء جهةٍ معيَّنةٍ باع الصحيح بالباطل وعطَّل عقله لينصر رأي الفاسدين. ولا أدري أين يرى هؤلاء أنفسهم بين الرجال؟ وكيف ينظر أحدهم إلى شخصه فيما بينه وبين نفسه؟ ولماذا يرضى أن يكون إمَّعَةً يتبع غيره في الشر فيظلم لكسب ودِّ غيره ولا يتجرّأ على إحقاق الحق وإبطال الباطل حتى لا يشذ عن جماعة الظالمين. ولو أنصف لعرف أن اتِّباع طريق الهدى وإن قل سالكوه خيرٌ من الاغترار بطُرق الرَّدى وإن كثرُ طارقوها. ومن باع نفسه للهوىفهو رخيصٌ مهما غلا ثمنه ومن اتقى الله تعالى فهو غالٍ مهما أرهقته المحن.
وعن أم المؤمنين عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من التمس رضى الله بسَخَط الناس رضي الله تعالى عنه وأرضى الناسَ عنه، ومن التمس رضا الناس بسَخَط الله سخِط الله عليه وأسخَط عليه الناس" رواه ابن حِبَّان. فالضعيف من طلب رضا الناس ولو كان في ذلك سخط الله وتناسى أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، والكيِّس من طلب رضا الله ولم يُعلق قلبه بما يقول الناس، فإن فعل ذلك رضي الله عنه وجعل له القَبول في نفوس الناس.
ولو استفاقوا من هم تحت مسمى الإمَّعة يومًا ونظروا إلى أنفسهم بتبصُّرٍ لوجدوها تندرج في الصنف الثالث من الأصناف الذين قسمهم أمير المؤمنين علي بن أبي طالبٍ عليه السلام فقد أخرج أبو نُعيمٍ في الحلية وغيره عن كُميل بن زيادٍ عن سيدنا عليٍ قال: "الناس ثلاثة فعالمٌ ربَّانيٌ (الراسخ في العلم) ومتعلمٌ على سبيل النجاة (كمن يتعلم أقل ما يحتاجه ويعمل به لينجو في الآخرة) وهمجٌ رَعاع أتباع كل ناعقٍ يميلون مع كل ريح لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركنٍ وثيق".والهمج هم الأراذل، والرَّعاع هم سفلة الناس. فانظر أين أنت من هذه الأقسام وماذا ترتضي لنفسك؟
أيقظوا الإِمَّعة
ونتيجة تفشي هذا الصنف من الناس بكثرةٍ في المجتمع صرنا نرى أصاغر يحتلون مواطن الأكابر وجُهلاء يحتكرون وظائف العلماء أو ظالمين يحوزون مواقع الصالحين ونجدهم فاسدين في أنفسهم وتمتد خيوط هذا الفساد المتصل بهم إلى من هم دونهم، فإذا بالشر يستطير وبالوباء يتفاقم وتعلو التُّحوت ونشهد جرَّاء ذلك المداهنة والمكر والطعن في الظهر وقلة الوفاء وتَحَيُّن الفُرص للنيل من الآخر والغفلة عن الموت والحساب.
ومن المؤسف جدًا أن ينظر البعض إلى صفة الإمَّعة على أنها حُسن تدبير أو أنها حِلمٌ وتواضعٌ وبمثل هذا تنهار المجتمعات وتندثر القِيم ولهؤلاء نقول: أن تكون إمَّعة لا يعني أنك حليمٌ متواضعٌ فطنٌ ومن ظن ذلك فهو جاهلٌ يكذب على نفسه بل معناه أنك ضعيف النفس عاجزٌ عن بلوغ المعالي. فليس معنى التواضع أن تكون ذليل النفس لأجل الدنيا بل معناه أن تُشفق على المؤمنين وتترك التكبُّر، وليس معنى الحلم أن تسكت على الباطل خشية غضب الزعيم فإن الساكت عن الحق شيطانٌ أخرس، بل معناه أن لا يستفزَّك الغضب فتخرج عن حدِّ الحكمة، وليس معنى الفطنة أن تبيع دينك بدنياك بل معناه أن تقدم رضا الله أولًا.
ومن زعم أن متاعب الدنيا أحوجته إلى أن يكون إمَّعة فأيقظوه بقوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكَّل على الله فهو حسبه} سورة الطلاق. وبما جاء عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله عزّ وجلَّ للدنيا يا دنيا اخدمي من خدمني(أطاعني) وأتعبي من خدمك" رواه القُضاعي في "مسنده".
وفي هذا قلت:
إحذر حذاريَ أن تُصَيَّرَ إمَّعة تتَّبع الفاجر أو تمشي معه
إرجع إلى الحق وراجع أهله لتكون مهدًا للصلاح ومرجِعه
والحمد لله أولًا وآخرًا.