كل إناءٕ بما فيه ينضح
بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 29 تشرين الثاني 2024
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{فمن اتقى وأصلح فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون} سورة الأعراف.
أن يكون المرء حرًا فإن ذلك لا يعني التخلِّي عن الفضائل الجليلة والمبادئ النبيلة والمُثل الكريمة، وأن يكون أحدهم كريمًا عزيز النفس فإن ذلك لا يعني أن يتكبَّر عن قَبُول النصيحة وعن الانصياع للحق وإن صدر الحق ممن هو دونه في العمر أو المنصب، وأن يكون الواحد طيِّب القلب متواضعًا فإن ذلك لا يعني أن يكون ساذَجًا غبيًا يسهُل خداعه والإيقاع به، وأن يكون الإنسان قوي الهمة أو الجسم فإن ذلك لا يعني أن يظلم ويأكل حق الآخرين فليس الصبر ضعفًا وليس العفو خُنوعًا وليس العمل على مساعدة الفقراء والمساكين وقضاء حوائجهم ذلًا وليس البعد عن الحرام والحذر من مقارفته تخلُّفًا ولا مجاراة أهل الأهواء ومشاركتهم في باطلهم وإثمهم تقدُّمًا ورُقيًّا.
وإن من المؤسف أن صرنا إلى زمانٍ غريبٍ ربما مارس فيه بعضهم وبعضهن الفواحش والموبقات ثم يدافعُ أحدهم عن نفسه فيقول: العبرة بصفاء النية ونقاء القلب وسلامة الباطن وحُسن المعاملة ويتناسى أن الأفعال إنما تُعبِّر عادةً عمَّا في القلب فالقلب أمير الجوارح وهو أشرف أعضاء الإنسان وفيه العقل الذي يميِّز به المرء بين ما ينفعه وما يضره وقد جعل الله تعالى الجوارح مُسخَّرةً ومطيعةً له فما استقر فيه ظهر عليها وعملت به إن خيرًا فخيرٌ وإن شرًا فشرٌ فهو يُعطي إشارةً إلى اليد فتتحرك ويعطي إشارةً إلى الرجل فتتحرك وهكذا وهو مع ذلك سريع التقلُّب بل لهو أسرع تقلُّبًا من الماء إذا غلا في القِدر.
افهم واعمل
وقد قيل:
ما سمي القلب إلا من تقلُّبه فاحذر على القلب من قلبٍ وتحويل
وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على إصلاح القلب فعن النعمان بن بشيرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"ألا وإن في الجسد مضغة (قطعة لحمٍ بقدر ما يُمضغ أي بقدر لقمة) إذا صَلَحَت صَلحَ الجسد كله وإذا فَسَدَت فَسَد الجسد كله ألا وهي القلب" متفقٌ عليه. وعن عبد الله بن عمروٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اللهم يا مُصرِّف القلوب صَرِّف قلوبنا على طاعتك" رواه مسلم. وفيه تعليمٌ للأمة ليسأل الواحد ربه الثبات على طاعته وليعتني بأمر قلبه ليكون مصروُفًا إلى الاستقامة.
فإن قلب المرء إذا استقام امتلأ من محبة الله تعالى وتعظيمه حق التعظيم فاستقامت جوارحه وكَمل إيمانه وسارعت أعضاؤه إلى ما يعلم فيه رضى الله عز وجلَّ وكفَّت عما يكرهه الله تعالى وأحجمت عن الأوزار وإذا علمتَ ذلك ووقر معناه في نفسك فاحرص على إصلاح فؤادك بتدبر القرآن العظيم وأداء الواجبات واجتناب المحرَّمات ومجالسة الصالحين وترك الحرام فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وإن الله عز وجلَّ أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال تعالى يا أيها الرُّسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحًا" (سورة المؤمنون) رواه مسلم. والطيبات المأكولات المتصفة بالحِلِّ والأعمال الصَّالحة هي التي تُقرِّب إلى ربنا ويُنال بها رضاه تعالى. فإن الحرام إذا استقر في الجوف أظلم القلب وبالتالي: على العاقل أن يستعين بالطيِّبات على تنوير الفؤاد فإن استنار قلبه ظهر أثر ذلك على جوارحه ونضح بالخير وكل إناءٍ بما فيه ينضح ومن امتلأ قلبه خبثًا فلن ينضح طيبًا وأكثر القلوب سوداء كالليل الحالك
وربما أورد بعضهم حديث البخاري ومسلم عن سيدنا عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى" فادعى أنه لا حرج عليه في فعل شىءٍ طالما كانت نيته طيبة بزعمه فتراه يركب القبائح ويقتحم الموبقات وينغمس في الرذائل ويواجه من يُنكر عليه بالحديث ظنًا منه أن في الحديث حجةً له وتأييدًا لما هو فيه وهذا جهل فظيع وضلالٌ مبينٌ واستدلالٌ في غير محله فالحذر الحذر. وللجاهل بمعنى الحديث الحقيقي نقول: معنى هذا أن العمل الصَّالح لا يكون محسوبًا إلا بالنية وما خلا عن النية فلا يُعتد به وأن تعيين النية في الأعمال كالصلاة والصوم شرطٌ وأن الفتوى أحيانًا يُراعى فيها نية الشخص كمن أتى بلفظ صريح الطلاق ونوى به طلقتين أو ثلاثًا فإنه يقع ما نوى. وليس معنى الحديث أن المرء لا يؤاخذ على ذنوبه ما لم ينوِ فسادًا إذ لو كان الأمر هكذا لأمكن أن يُدافع الفاسد عن نفسه بدعوى صفاء السريرة ولتعطَّلت بذلك الحدود والعقوبات ولما استوجب العذاب في الآخرة وهذا ظاهر البطلان.
وربما نسب بعضهم أيضًا حديثًا مكذوبًا على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الدين المعاملة" وهذا مختلقٌ موضوعٌ مفترًى لم يقله النبي صلى الله عليه وسلم ولا قاله أحدٌ من أهل العلم المعتبرين بل هو فاسد المعنى، فإن الدين فيه معاملاتٌ وفيه عباداتٌ ولا شك أن المعاملة الحسنة من الدين ولكن لا يكفي أن يُراعي المرء الناس ثم يقصِّر فيما لزمه من الواجبات الشرعية. وربما قلَّل بعضهم من شأن الصلاة والصيام وزعم أنها قشورٌ لا طائل منها وأن صدق معاملة الناس هي اللب وأن العبرة كل العبرة بحسن المعاملة وهذا من أضلِّ الضلال لما فيه من تنقيصٍ لشأن الصلاة والصيام، والواقع ان الشيطان قد لبَّس على كثيرٍ من الناس فأرداهم في مهاوي الضلال ثم زيَّن لهم الدفاع عن أنفسهم فخالفوا الحق قولًا وفعلًا. وليعلم أنه ليس لأحدٍ أن يستدرك على الشرع وقد شرع ربنا الأحكام وأرسل الأنبياء عليهم السلام ليبلِّغوا الناس وأمر سبحانه باتِّباع شريعته على حسب ما بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يُقبل من أحدٍ أن يقول: العبرة بالنية والمعاملة ويدعو إلى الإعراض عن التكاليف الثابتة كالصلاة والزكاة والصيام والحج، فقد قال الله تعالى:{وأن هذا صراطي مستقيمًا فاتَّبعوه ولا تَتَّبعوا السُّبُل فَتفَرَّقَ بكم عن سبيله ذالكم وصَّاكم به لعلكم تتقون} سورة الأنعام. وقوله فاتَّبعوه أي فاعملوا به وقوله ولا تَتَّبعوا السُبل أي لا تسلكوا طريقًا سواه ومعنى فتفرَّق بكم عن سبيله فيُشتَّت بكم إن اتبعتم سُبلًا أخرى والحمد لله أولًا وآخرًا.