بمناسبة محاكمة وإعدام إيران لعلي رضا أكبري / بقلم السيد صادق الموسوي
الشراع 17 كانون ثاني 2023
كيف تغلغل الجواسيس في الدول والمؤسسات ؟
موضوع التجسس أمر متداول لدى جميع الدول وفي مختلف العصور، والغاية منها التوصل إلى معلومات مهمة تؤثر في مسار التعامل بين كل دولة وغيرها، وهذا الأمر لا يقتصر على الدول المتعادية، بل إن الدول تتجسس على أقرب أصدقائها وحلفائها أيضاً حيث انفضح أمر الجاسوس الإسرائيلي في البحرية الأمريكية جوناثان بولارد والذي حكمت عليه السلطات القضائية الأمريكية بالسجن مدى الحياة، ولم تشفع العلاقات الإستراتيجية بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني للتغاضي عن فعلته تلك، بل بقي الرجل في السجن منذ العام ١٩٨٦ على الرغم من الوساطات المتكررة للقادة الصهاينة، حتى جاء دونالد ترامب وأصدر عفواً خاصاً عنه قبل انتهاء ولايته في العام ٢٠٢٠ "تبييضاً "لصفحته أمام اللوبي الصهيوني وأملاً في مساندتهم له ليفوز بالرئاسة في دورة جديدة، واللافت أنه أعطي الجنسية الإسرائيلية قبل أن تطأ رجلاه أرض فلسطين المحتلة حيث استقبله بنيامين نتنياهو وقدم إليه الجنسية تلك ،وهو لا يزال على سلّم الطائرة.
ومن الأولى أن تقوم كل دولة بالتجسس على الدولة المعادية لها لتعرف كل خبايا الطرف المعادي وتستخدم تلك المعلومات في مواجهتها معه سواء كانت المواجهة عسكرية أو سياسية أ و أمنية أو إقتصادية أو صناعية أو غيرها، وهنا يبدو بوضوح مدى عمق تغلغل المخابرات الصهيونية في الدول العربية منذ عقود حتى أن بعض الملوك والرؤساء انفضح أمرهم أنهم يقومون منذ فترة طويلة بدور نقل المعلومات المهمة والحساسة إلى العدو الصهيوني، وهذا الأمر ليس سرّا بأي حال، حيث انكشفت كثير من الأسرار بعد إقامة علاقات في الاطر الرسمية والعلنية بين بعض الدول العربية والصهاينة، والتي تؤكد أن العلاقات الوطيدة بين قيادات تلك الدول والكيان الغاصب تعود بداياتها إلى عقود من السنين خلت وبعضهم صرح بأنه كان يتردد على فلسطين المحتلة مراراً ويتواصل مع الصهاينة المجرمين وينقل إليهم المعلومات طلباً لودّهم ،واسترضاءً للوبي الصهيوني في الولايات المتحدة والبيت الأبيض في سبيل السماح له للوصول إلى سدة الحكم أو لتثبيت موقعه عليه
إن أهمية كل جاسوس تكون من خلال موقعه وقدرته على الوصول إلى المعلومات التي تبحث عنها قيادات المؤسسة التجسسية في كل بلد عن البلد المطلوب التغلغل فيه، وبناء على قدرة كل جاسوس تزويد تلك المؤسسة بالمعلومات " الدسمة " تكون منزلة ذلك العميل الجاسوس، فالذي يكون في موقع وضيع وتكون معلوماته غير حيوية فإنه لا يتم الإهتمام به كما يكون الأمر مع الشخصية المهمة في المواقع الرئيسية في البلاد سواء كانت سياسية أو أمنية أو عسكرية أو غيرها.
والكتب عن الجاسوسية في الحرب العالمية الأولى والثانية وعن دور جواسيس الصهاينة في البلاد العربية كثيرة، والذين انفضح امرهم من الجواسيس حتى اليوم هم نزر يسير أمام من لا يزالون يعشعشًون في مؤسساتها
وفي إيران حيث كان النظام الشاهنشاهي مسيّر من الشاه فما دونه من قبل المخابرات الأمريكية والموساد الصهيوني، والبيت الأبيض وقادة الكيان الغاصب كانوا مطمئنين على استقرار الوضع في إيران الشاه لعدة عقود على الأقل، لكن انتصار الثورة الإسلامية في العام ١٩٧٩ بقيادة الإمام الخميني الراحل قلب الطاولة على رؤوسهم وخلط الأوراق بصورة كاملة حيث تم طرد المستشارين الأمريكيين البالغ عددهم أكثر من خمسين ألفاً وفرّ العناصر المرتهنين للصهاينة مسرعين، وهم واثقون بأن غيابهم عن إيران لن يطول كثيراً وأنهم سيعودون بعد فترة قصيرة ،كما كان في العام ١٩٥٣ .حيث اضطر الشاه للهرب من إيران بفعل الثورة الشعبية بقيادة آية الله السيد أبوالقاسم كاشاني والدكتور محمد مصدق لكن المخابرات الأمريكية والبريطانية استطاعت إجهاض الثورة وإعادة الشاه الهارب محمد رضا بهلوي إلى السلطة من خلال إنقلاب عسكري ونتيجة للإستعانة بالمجموعات الغوغائية و " الزعران " بقيادة شعبان جعفري حيث تفلتوا في شوارع العاصمة وشرعوا في نشر الرعب بين الناس وتحطيم واجهات المحلات والتعدي على المواطنين ، فكان تدخل الجيش بذريعة فرض الأمن ووقف التعديات على ممتلكات المواطنين، وفي هذه الأثناء عاد الشاه وأعلن الجيش ولاءه له من جديد وتم اعتقال مصدق ومحاكمته وسجنه في منزله حتى وافته المنية هناك عام ١٩٦٧، وتم عزل آية الله كاشاني في منزله أيضاً.
لكن
أمام التطور الهائل في مختلف المجالات العلمية والعسكرية في ايران بعد ثورتها عام 1979 كان لا بد من بذل كافة الجهود من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا والكيان الصهيوني على الخصوص من أجل الحصول على معلومات عن مختلف المجالات في الجمهورية الإسلامية، وهنا يبرز دور العملاء الذين يمكنهم إطلاع الأعداء على أسرار النظام ليسهل تمرير المؤامرات ضد النظام الإسلامي.
لم يكن عليرضا أكبري هو الأول والوحيد الذي وضع نفسه في خدمة الإستخبارات الأجنبية لكنه بفضل موقعه في وزارة الدفاع ومجلس الأمن القومي الإيراني كان يمكنه الوصول إلى معلومات هامة عن النشاط في المؤسستين والتغلغل في مؤسسات مهمة تتعامل مع تلك المؤسستين بحكم موقعه، ومن جملة ذلك كان الاقتراب من العلماء الإيرانيين في المجال النووي والأخصائيين في مجال الصناعات العسكرية، وهذا ما جعله عنصراً مهماً للغاية لدى المخابرات الأمريكية والبريطانية ما سرّع في حصوله على الجنسية البريطانية.
إن التحرك البريطاني على أعلى المستويات والتضامن الأمريكي والأوروبي معها في إدانة إعدام عليرضا نوري يدلان على أهمية الرجل لديهم، وإن عملية الإعدام هذه ستجعل حتماً العملاء الآخرين المدسوسين في مختلف المؤسسات الإيرانية يعيدون حساباتهم حيث تبين لهم أن لا فائدة من الإستناد إلى حماية القوى الأجنبية وإن كانت من الدول العظمى، وأن الموت سيكون المصير المحتوم لكل من ينفضح دوره في خدمة أعداء الجمهورية الإسلامية، وفي هذه الحالة سوف تفقد أجهزة الإستخبارات الأجنبية كثيراً من المتعاملين معها في إيران سواء عن طريق قطع التعامل مع الأجنبي أو الإفصاح عن دورهم قبل أن تكتشفهم الأجهزة الإستخبارية الإيرانية.
أما الطِرق والأساليب التي استعملتها أجهزة الإستخبارات الأجنبية في اصطياد هذا الرجل والتي تُستعمل على الدوام للتغرير بالأشخاص وإيقاعهم في الشَرَك فهي في الغالب تبدأ بالتعرف على الأشخاص ثم توريطهم في أمور تهدد كيانهم وحياتهم، ومن بعد ذلك تأتي عملية الإبتزاز والإنقضاض على الفريسة وفرض التعامل بصورة كاملة عليه.
ومن جهة أخرى يقوم الأعداء بتطميع هؤلاء وإغرائهم ليقوموا بالخدمة على أكمل وجه أملاً في الحصول على المال أو فرصة الإقامة والعمل في البلاد التي يتشوقون كثيراً في التواجد على أراضيها.
إن الأخطر في عملية اصطياد هو استقاء المعلومات المهمة والسرية عبر أشخاص لا يعرفون حقيقة الأمور ولا أساليب الأعداء في الوصول إلى المعلومات حتى عن طريق الأشخاص السذَّج الذين لا يقبلون بتقديم الخدمة إلى الأعداء لو اكتشفوا حقيقة الأمر لكنهم يفصحون عن المكنونات والأمور السرية أمام العملاء في السهرات العادية لإثبات شخصيتهم أمام الحاضرين وتأكيد مستوى موقعهم الرفيع في نظام الجمهورية الإسلامية، وهنا يأتي دور العميل الذي يكون حاضراً في عداد الساهرين مثلاً فهو يبقى يورط هذا المسكين في البوح بالأسرار واحداً بعد آخر من دون أن يعي المتكلم أنه مستمر في مدّ الأجهزة الإستخبارية المعادية وبالمجان بالمعلومات المهمة التي تريدها.
والواضح أن كثيراً من هذه النماذج من الأشخاص موجودون بيننا من دون أن نتبه لتصرفاتهم، وأن الأجهزة الإستخبارية المعادية تطلع من خلالهم على كثير من المعلومات عما يدور في المراكز المهمة وبين كبار المسؤولين.
إن الأسلوب الآخر لتغلغل الإستخبارات الأجنبية في الدول هو تأجيج الخلافات بين المجموعات والأحزاب والطوائف حتى تضطر كلها الإلتجاء إلى العدو حماية لنفسها والإستقواء به على أخيه في الدين والطائفة والحزب والعشيرة، ..
وبالعودة إلى عليرضا نوري فإن الإستخبارات الإيرانية قد راقبت الرجل طوال سنوات وتتبعت تحركاته حتى نجحت في اصطياده واعتقاله وتقديمه إلى القضاء ليقوم هو بمحاكمته وإدانته وإصدار حكم الإعدام عليه وذلك بعد أكثر من ثلاث سنوات من التحقيق، وما ظهر من ردود الأفعال من جانب بريطانيا والدول الغربية يدلّ على أن الصيد كان ثميناً جداً وأن خسارة المخابرات البريطانية باعتقاله وإعدامه كانت كبيرة حقاً.
وسيكون مصير غير عليرضا نوري من الذين يخونون وطنهم سواء في إيران أو لبنان أو غيرها أيضاً مصير نوري ، لكن الوصول إلى العميل الخائن يحتاج إلى مزيد من التحري والإستقصاء وهذا يأخذ قليلاً من الوقت، لكن الخزي والعار سيبقى وصمة في جبين الذين يتواطؤون على أهلهم وبلدهم.
أما النصيحة للمخلصين من الذي خَبِر العمل في الساحة اللبنانية والإيرانية والعراقية لمدة عقود طويلة فهي أن المدخل للتورط في العمالة واستغلال العدو الثغرة لينفذ عبرها إلى كيان مختلف الأشخاص والشخصيات هو الأنانية وحب النفس والطمع في المال والجاه، وإن العميل لا يُظهر أبدا حقيقته على الملأ بل إنه يتلون بألوان متعددة ويلبس لبوس كثيرة ويتودد لهذا وذاك ويتقرب إلى من هم في المواقع المهمة من دون أن يعرف أصحاب تلك المواقع حقيقة شخصيته والدور الذي يقوم بأدائه، لذلك لا بد من الحذر الشديد من الأشخاص " المبخّرين " الذين يحيطون بالمسؤولين، وعدم الثقة العمياء حتى بأقرب المقربين والتدقيق في انتقاء البطانة وحَمَلَة الأسرار والعمل بقول الله سبحانه في كتابه المجيد:
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بِطانةً من دونكم لا يألونكم خَبالاً ودّوا ما عَنِتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بيّنّا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) صدق الله العلي العظم.
السيد صادق الموسوي
الشراع