بيروت | Clouds 28.7 c

الحلقة الثانية: أيام صنعت إنجازات… سنوات من نضالات جمال عبد الناصر / كتب حسن محمود قبيسي

 

 

الحلقة الثانية:

 

أيام صنعت إنجازات… سنوات من نضالات جمال عبد  الناصر / كتب حسن محمود قبيسي   

الشراع 30 ايلول 2023

 

الثورة والأحزاب:

أسهمت معظم الأحزاب المصرية في إفساد الحياة السياسية، وتعاونت مع الاحتلالالإنكليزي، كما كان لبعضها: الحزب الوطنيحدتوالإخوان المسلمون دور في قيامالثورة. لذا ساد شعور معاد لها عند الضباط الأحرار وقيادتهم وفي صفوف الجماهير. معذلك حاولت الثورة الاستعانة بحزب الوفد (حزب الأغلبية)  بتكليف مصطفى النحاس وفؤادسراج الدين بعده تشكيل الوزارة شرط الموافقة على الإصلاح الزراعي، إلا أنهما رفضاذلك وطالبا بضريبة مرتفعة على الأرض ورفع أجور العمال الزراعيين. فصرف مجلس قيادةالثورة النظر عن التعاون مع الوفد، واتجه للتعاون مع آخرين، فلم يجد عندهم إلا الأنانيةوالتنديد بالأطراف المنافسة.

فالثورة لم تحل الأحزاب إلا بعد فترة، بعدما طلبت منها تطهير صفوفها من العناصرالفاسدة فتخلصت من الضعفاء في مسرحية مكشوفة، مما اضطرها إلى حلها بعد إلغاءالدستور، ولم يستثنى إلا « الأخوان  المسلمون » حيث اعتبروا جمعية دينية، واستغلواوضعهم الجديد وزادوا نشاطاتهم وحاولوا تشكيل وحدات في الجيش والشرطة مما أدىإلى اعتقالات ومحاكمات ثم إفراجات، تحدث عبد الناصر عن تلك النشاطات وما تبعها: «هل حاكمناهم إفتراءً؟ أم أنه كان يوجد جيش مسلح للانقضاض على هذا الشعب؟ ألميحدث هذا في 1954؟ هل بدأنا العدوان؟ هل تركناهم في السجون؟ خرجوا من السجونوأكثرهم أفرج عنه قبل أن تنتهي مدة العقوبة، وأكثرهم ممن كانوا في وظائف وفصلوا،وضع لهم قانون خاص بأن يعودوا إلى وظائفهم ... هذا هو العدل الذي كنا نتبعه ونسيرعليه. »

أما عن الماركسيين، فمرّت فترات تعاون لا سيما قبل الثورة، ثم بعدما إتخذت فصائل منهممواقف مناهضة للثورة، كان تصادماً وصفه عبد الناصر بأنه تصادم مع العملاء الذينيأخذون تعليماتهم من الخارج، متهماً الحزب الشيوعي المصري بأخذ تعليماته منبلغاريا، وبأن قيادته موجودة في صوفياعاصمة بلغارياوهي عميلة، معاهداً بأنه لنيترك للعملاء سبيلاً ليغرّروا بالشعب.

 أولاً - الوفد:

كانت خطوة الأحزاب في التطهير ناقصة إن لم تكن ملتوية، فلقد أثبتت الوقائع أن ماكانت تنشده لا يزيد عن تزيين إطار صورتها، لا الوصول إلى الجوهر في سبيل بناءمجتمع تسوده العدالة والمساواة، فرفضت بمعظمها أول إنجازات الثورة على الصعيدالاجتماعي:

قانون الإصلاح الزراعي الذي صدر في نفس اليوم الذي صدر فيه القانون رقم 179 بتاريخ 9/9/ 1952 لتنظيم الأحزاب ، الذي أعده وزير الداخلية سليمان حافظ واعترضعليه (من جهة المبدأ) د. عبد الرزاق السنهوري بحجة أن العرف الدستوري لتلك الأحزابترك الأمر (التطهير) معلقاً بها، وانتصرت وجهة نظر حافظ وأقرّ المشروع مشترطاً تدخلالإدارة في حالة الضرورة لتحقيق أغراض القانون، على أن يراقب القضاء الإداري فيالدولة تدخلها.

بتولي اللواء محمد نجيب رئاسة الوزارة، صدر القانون ناصّا على أن المقصود بالحزبالسياسي«كل حزب أو جمعية أو جماعة منظمة تشتغل بالشؤون السياسية للدولةالخارجية منها والداخلية لتحقيق أهداف معينة عن طريق يتصل بالحكم».  

واشترط تكوين الأحزاب بإحاطة وزير الداخلية بكتاب موصى عليه بعلم الوصول، محدداًمهلة شهر أمامه للاعتراض إذا رغب بذلك على أن يتضمن الكتاب بيان عن نظام الحزبوأعضائه والمؤسسين وحظر على رئيس وأعضاء مجلس إدارة الحزب أن يكونوا أعضاء اومسؤولين في مجلس إدارة إحدى الشركات المساهمة التي تكفل لها الحكومة مزايا خاصة،ملزماً الأحزاب بالإفصاح عن مواردها المالية وإيداعاتها في المصارف، وإعادة تكويننفسها وفق أحكام القانون الجديد.

باغت القانون الجديد الأحزاب، وحاول الوفد التعامل معه، فصدر تصريح لمصطفىالنحاس حوله أعلن فيه أنهم سيبعدون المعتقلين عن تنظيمات الوفد الجديدة، أرسل فؤادسراج الدين من المعتقل (كان واحداً من قيادات حزبية وسياسية طالتها حملة اعتقالاتقبل تسلم اللواء نجيب رئاسة الحكومة بيوم واحد) استقالته من الوفد ومن مجلس الشيوخ،قال فيها للنحاس:

«إنني أستقيل إخلاصًا للوفد ولشخصكم ».

أصدر الوفد أول برنامج مكتوب له بعدما كان يبني مواقفه وسياسته على أساس بياناتمؤتمراته الوطنية التي عقدت سنوات 1928،1935،1943، وما يرد في كلمات وخطب عيد الجهاد الوطني: 14 تشرين الثاني/ نوفمبر من كل عام اعتبر نفسه فيه، هيئة سياسيةديمقراطية اشتراكية لتحقيق الاستقلال والوحدة ورفض جميع صور الدفاع المشترك ونصعلى ما يلي:

-التمسك بعروبة فلسطين.

-  دعم مجموعة الدول الأفريقية والآسيوية وتأييد سياستها في الدفاع عن قضايا الحرية.

 -إقرار حد أدنى للأجور عموماً وللعمال الزراعيين خصوصاً.

- صدور قانون معاقبة الوزراء.

- صدور قانون التأمين الاجتماعي للعمال وتعميمه.

- استصدار قانون تأمين صحي للعمال وأفراد أسرهم.

 - تجديد القرية المصرية خلال عشرين عاماً.

  - حد أدنى لأجور العامل الزراعي.

الانتهاء من تعميم المياه الصالحة للشرب خلال خمس سنوات طبقاً لمشروع وزارة الوفدالذي أقرته عام 1951.

- جعل التعليم الديني إجبارياً.

- تحريم الخمر والميسر.

 - الموافقة على مشروع تحديد الملكية باعتباره يهدف للعدالة الاجتماعية ويقرّب بينالطبقات.

يتضح من هذا البرنامج تغييراً جذرياً وموافقة وتقرّباً من الثورة بتبنّي مفاهيمها ومحاولةرفع لواء الدفاع عن الجماهير المصرية المسحوقة والعمل على تنمية مصر وتطورها معالإشارة إلى مشروعاته (الوفد) وكأنها تذكير باحتضانه الطبقات الشعبية.

رأى وزير الخارجية المصرية السابق د. محمد صلاح الدين في البرنامج مدخلاًللاستفسار من سليمان حافظ عن موقفه من الحزب ومن النحاس باشا، فرد عليه: «إنلدى الوزارة أسباباً خطيرة للإعتراض عليه أمام مجلس الدولة».

ما أن علم النحاس باشا بهذا الموقف السلبي حتى أصدر بياناً جاء فيه:

«إنني أعد نفسي دائماً ملكاً للشعب، وقد كانت ثقتي في الشعب وثقته في شخصيطوال حياتي السياسية عوني على الشدائد وظهيري في العيش، وسأظل ما بقي منعمري ملكاً لهذا الشعب، ولن تستطيع قوة أن تنحيني عن هذه المكانة بعد الله جلت قدرتهإلا الشعب دون سواه، والله ولي التوفيق».

استثار النحاس باشا ببيانه هذا صحافة الوفد وقيادته وأعضائه فانبرى للدفاع عنهأحمد أبو الفتح بسلسلة مقالات في صحيفة المصري، اعتبرته رمزاً للجهاد المصري،وبالتالي فإن محاولة تحطيمه هي محاولة لطمس نضال المصريين ضد الاستعمارمتناسيةً أن الاحتلال الإنكليزي قد حمله إلى رئاسة الحكومة في 4/ 2/1942، وهو مايبدو أنه أشار إليه حافظ عندما تطرق إلى الأسباب الخطيرة للاعتراض عليه، رفضالحزب تقديم إخطار إلى وزير الداخلية يتعلق بإعادة تشكيله ببيان صدر عنه: »قرر الوفدبإجماع الآراء بجلسته المنعقدة يوم السبت 27/ 9/ 1952 ألا يقدم إلى وزير الداخليةإخطاراً بإعادة تكوينه ووقع عليه كل من:

مصطفى النحاسعبد السلام فهمي جمعةعلي زكي العرابيعبد الفتاح الطويلأحمد حمزةمحمد محمد الوكيل. والوزراء السابقون: إبراهيم فرجعبد المجيد عبدالحقمحمد صلاح الدينعبد الجواد حسن.

اقتصرت في البدء معارضة الوفد لقانون الأحزاب على هذا الاعتراض السلبي الذي أقرّبمضمونه قانون الأحزاب، لكنه رفض محاولة التخلص من النحاس باشا شخصياً.

وبذلك يكون الوفد قد رضي بقانون الأحزاب، إن بإصدار برنامجه السياسي أو بإعلانعزمه على تطهير صفوفه، لكن عندما وصل الأمر إلى مصطفى النحاس، قرر الأخيرتجميد نفسه لقناعته أن الوفد كله أصبح مستهدفاً باستهداف زعيمه.

لعبت عوامل كثيرة في إنكفاء الوفد وتراجعه وتوقيفه إلى حين عاود الظهور بعدما أفسحالمجال أمام الأحزاب للظهور مجدداً بعد حرب تشرين/ أكتوبر 1973.

فزعيمه النحاس باشا تجاوز السبعين، وفقد توهجه السياسي الذي اكتسبه بعد نضالاتأيام الحزب الوطني قبل أن ينضم إلى «الوفد» باقتراح من محمد فريد، وتصدّيه لحكمدارالبوليس يوم أن جذبه من فوق حصانه، أو أيام التشرد والنوم على أرصفة المحطات هرباًمن الملاحقة، وبهتت صورته أمام الجماهير بعد حادثة شباط/ فبراير 1942. كما أحاطنفسه بمجموعة من التوفيقيين أمثال طه حسين وعبد السلام فهمي جمعة، وقيادته الهرمةحالت دون وصول قيادات شابة إلى قمة الهرم الحزبي حارمةً الحزب من تدفق دم جديد،هذا في ظل غياب إطار حزبي يحرك الجماهير المنتشرة دون تأطير أو تنظيم وفق خطسياسي واضح يرتكز إلى منطلقات فكرية تشكل الحل للمشاكل السياسية والاجتماعيةالتي تتخبط فيها الثورة.

كانت قيادة الحزب أكثر المعنيين إلماماً بهذا الوضع المتردّي الذي وصل إليه حزب الأغلبيةالذي انتزع استقلالاً اسمياً من الإنكليز بتواجدهم فوق أرض مصر، ثم عقد معهم معاهدة1936 ووصل بنفوذهم وقوتهم إلى رئاسة الحكومة، ثم ألغى المعاهدة المذلة.

الحزب الذي يصل إلى البرلمان بأصوات الفلاحين والعمال ولا يدافع عن مصالحهمالمتناقضة مع مصالح قيادته الإقطاعية الرأسمالية، وأكثرهم إطلاعاً على هبوط شعبيته فيصفوف الجماهير وإرتفاع أسهم الضباط الأحرار والثورة التي فجرها العسكر، «وابورالزلط» الذي لا يستطيع وقف زحفه إلا من هم أقوى منه، ولا أقوى إلا الشعب المؤمنبالدستور والديمقراطية على حد ما وصفه النحاس باشا وهذا الشعب كفر بالدستوروبالديمقراطية الليبرالية كما أكد في أزمة مارس 1954. 

وكان تخبّط الحزب وضياعه ما بين طي صفحة الماضي واستسلامه للأمر الواقع أوالاستمرار حتى لو دون زعيمه التاريخي خليفة الزعيم المؤسس.

رأى النحاس باشا أن ينزوي ويترك الحزب يسير بدونه على سكة الحياة الحزبية فيمصر، فاستدعي رئيس تحرير صحيفة «المصري» وأملى عليه مقالاً نشره يوم 6 تشرينالأول/ أكتوبر 1952، أبدى فيه رغبته تلك وحرصه على استمرار الوفد بصرف النظر عنشخصيته ووضعه، ثم جمع أعضاء الوفد (قيادته)  ليسلمهم الأمانة.

حاولت قيادة الوفد تجاوز أزمتها، فأعلنت استمرارية الوفد مع احترام رغبة النحاس باشاباعتزال العمل الحزبي وحفظ ماء الوجه، بالتمسك به رئيس شرف مدى الحياة، فأصدرتبياناً حددت فيه موقعها:

«رعايةً لما أبداه الرئيس الجليل مصطفى النحاس وأصرّ عليه من أن الحالة أصبحت لاتمكنه من مباشرة أعباء الرئاسة الفعلية ومقتضياتها، بعد ما احتمل الكثير في سبيلالدفاع عن القضية الوطنية في الثلاثين سنة الماضية، فإن الوفد المصري إذ ينزل مضطراًإزاء إصراره على رغبته وإذ يقرر جعله رئيس شرف له مدى حياته الطويلة المباركة إن شاءالله، يستلهم منه التوجيه ويشهد إخلاصه إخلاصاً، ومن قوته ووطنيته وصلابته في الحقسراجاً منيراً. ويقرّر أنه سيمضي في مستقبل أيامه على نهجه الواضح وطريقه المستقيموخطته القوية التي رسمها لتحرير الوادي معتبراً إياه ركنه الركين وحصنه ومرجعه فيالملمات».

توقيعات: عبد السلام فهمي جمعةعلي زكي العرابيعبد الفتاح الطويلمحمدمحمد الوكيلأحمد حمزة.

وتحركت جماهير الوفد فأمت منزله: «لا وفد بدونك يا نحاس» ، إلا أنّ التحركات وحملةأحمد أبو الفتح في المصري لم تفلح بإعادة النحاس إلى الوفد، ولا ببث حياة جديدة فيحزب شاخ حين شاخت قيادته.  

وأطل النحاس من جديد ليعلن في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 1953 موقفاً من الجيشمغايراً لقناعته السابقة، فإذا بالجيش فجأة قوة الشعب ومحقق أحلامه:

«جاءت حركة الجيش التحررية حية رائعة لصحوة الشعب وقدرته على استبداد المستبدّينوطغيان المستهترين العابثين، فدارت عليهم الدوائر وباء عهدهم وتطلعت البلاد إلى عهدجديد من العدالة المطلقة والحرية الشاملة ... ».

ظن الوفد أنه بتسمية النحاس باشا زعيماً اسمياً للحزب، وإصدار النحاس بياناً يبارك فيهمؤخراً حركة الجيش ويرى، دون أن يسمي، في الإصلاح الزراعي:

«عهداً جديداً من العدالة المطلقة والحرية الشاملة»، ظنوا أن هذا يزيل «تيقن الوفدالمصري من أن المقصود محاربته ومحاولة هدمه والتخلص منه ... »

دفع تمسك الوفد بخطه وإصراره على استلهام مسيرة النحاس باشا في استمراريتهوالمضي على نهجه وطريقه، على ما جاء في بيانهم، وزير الداخلية يوم 28/ 11/ 1952للاعتراض على رئاسة النحاس الشرفية للوفد وعلى اسم عبد الفتاح الطويل كمؤسس.

وفي نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر 1952، شهدت المحكمة التي كانت تنظر في اعتراضاتوزير الداخلية مظاهرة احتشد فيها خمسون محام من الإسكندرية يدافعون عن عبدالفتاح الطويل ورافع باسمهم د. وحيد رأفت وإبراهيم فرج ومحمود سليمان غنام وأحمدعبد الهادي وأعدوا مذكرة تطعن في قانون الأحزاب ... تأجّل النظر في القضية ....واستبق قانون حل الأحزاب 16/1/1953 الحكم فيها ... كان الحكم عليها .... كان حلالأحزاب بيان أذاعه اللواء محمد نجيب: «حل جميع الأحزاب السياسية ومصادرة جميعأموالها؛ بدلاً من أن تنفق في بذور الفتنة والشقاق...». استراح الوفد طويلاً...