بيروت | Clouds 28.7 c

العروة الوثقى / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

العروة الوثقى / بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 26 ايار 2023

 

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ا إكراه في الدِّين قد تبيَّن الرُّشد من الغيّ فمن يكفر بالطَّاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميعٌ عليم} سورة البقرة.

شاع في الآونة الأخيرة ومع تسارع الأحداث مسألة ما يُعرف بالحريات وراح الكثير يتوسَّعون تحت هذا العنوان حتى وصل الأمر أحيانًا إلى انتهاك الأعراض والإفساد الذريع والغلط في تفسير النصوص الدينية، وتفرَّع عن ذلك مؤخرًا صراعٌ على مسمى الحرية بكل أبعادها ولم يعد الصراع بين من يُنسب للتدين فقط بل لم يعد العلمانيون على رأي واحدٍ فيما يتعلَّق بمفهوم الحريات كمثل قوننة أنيعتقد المرء أو يمارس ما يشاء من نحو المثلية وغير ذلك.

وكثيرًا ما يزعم البعض أن الآية أعلاه برهانٌ على أن الله قد أباح للإنسان أن يدين ويختار أي دينٍ وعقيدةٍ ومنهجٍ شاء وأنه لا حرج عليه فيما يمارسه ما دام مقتنعًا به وهذا في حقيقة الأمر بابٌ واسعٌ للموبقات والفواحش، وليس معنى الآية كما يظن هؤلاء وإذا ما كان الواحد من هؤلاء لا يرى الحرية لأحدٍ أن يعتقد فيه السوء فكيف يسوغ بعد ذلك أن يقول قائل: الإنسان حرٌ في اعتقاد وفعل ما يحب!!! ومعنى كلام القائلين بهذا أن الإسلام أباح اعتقاد الألوهية للمخلوقات وأنه رخَّص في ممارسة الرذيلة تحت مسمَّى الحريات وهذا ظاهر البطلان، ومعلوم أن الإسلام نهى عن ذلك كله وأن الأنبياء سعَوا جاهدين في منع مثل هذا التَّنطع.وإزاء استدلال البعض بهذه الآية على هذا المعنى المعوجِّ لا بد لنا أن نُبيِّن الصوابفنقول إن للتفسير قواعد يرتكز عليها أهل العلم وليس لأحدٍ أن يدخل في تفسيركلام الله برأيه السقيم، وليس القرآن الكريم مجرد كتاب يتضمن نصوص رواياتٍ عابرةٍ، ومن لم يكن أهلًا للتأويل فليس له أن يدخل في ذلك كائنًا من كان فإن دين الله ليس ثوبًا يُحاك على مقاس فلان وفلان.

تفسيرٌ وبيان

وإذا عُلم هذا فليُعلم أنه ليس معنى الآية أن الإنسان حرٌ في اعتقاد وممارسة ما يريد إذ لو كان الأمر هكذا فلماذا أرسل الله الأنبياء وأمرهم بالدعوة إلى دينه؟!ولماذا خلق الله الجنة والنار ووعد وتوعَّد؟! ولماذا أوجب الله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وإن في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون} سورة آل عمران كفايةٌ في الدِلالة على أن المرء ليس حرًا في اختيار ما يريد من العقائد والأعمال، والأدلة على ذلك متضافرة، قال تعالى:{يا أيها الذين ءَامَنُوا ءَامِنُوا بالله ورسُوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملآئكته وكتبه ورسُله واليوم الأخر فقد ضلَّ ضلالًا بعيدًا} سورة النساء. ومعنى "آمِنُوا" اثبتوا على إِيمانكم. وحين نزل قولهتعالى: {وأنذر عشيرتك الأقربين} سورة الشعراء صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فنادى الناس وقال: "فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد" متفقٌ عليه عن ابن عبَّاس. إلى غير ذلك من النصوص القاطعة بأن الله لم يُرخِّص للمرء باعتقاد وفعل ما يشتهي، كيف لا وقد جاء كل الأنبياء بعقيدةٍ واحدة، ومن نظر في كتب التفسير المعتبرة عرف صحة ما نقول. وأولى ما قيل في تفسير قوله تعالى:{لا إكراه في الدين} أي لا تستطيعون أن تُكرهوا القلوبَ حتى تصير مؤمنة إنما أنتم تُبلِّغُون الدعوة والله يخلق الهداية فيمن شاء، ويؤيد ذلك تتمة الآية {قد تبيَّن الرشد من الغيّ فمن يكفر بالطَّاغُوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} والعروة الوثقى هي العمل الذي يوصل إلى رضا الله تعالى. وبالتالي: فمن لم يكن على هذه الصفة لم يستمسك بالعروة الوثقى، أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن طريق الإسلام الذي هو الرُّشد فمن آمن فقد اهتدى ومن أبى فقد هلك. فالإسلام في غاية الوضوح والبراهين على حقِّيته ظاهرة بحيث يُدرك ذلك كلُّ ذي عقل سليم فيؤمن من تلقاء نفسه من دون إكراه. وقد ذكر هذا المعنى غيرُ واحد من العلماء كابن الجوزي في "زاد المسير" وابن جُزي في "التسهيل" والخازن في "لباب التأويل" وغيرهم. وحيث اتضح هذا فالحذر من القول بأن الإسلام لا يرى بأسًا في أن يدين الشخص غير الحق وأن يُمارس ما يهواه. وإن حاول محاولٌ أن يؤيد زعمه أن الإسلام كفل هذه الحرية مستشهدًا لدعواه بقوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} قلنا: هذا اقتطع الآية فمثله كمثل من يزعم أن الله نهى عن الصلاة فيقول: قال تعالى في سورة النساء "لا تقربوا الصلاة" ولا يُكمل "وأنتم سكارى" ويزعم أن الله توعَّد المصلين فيقرأ "فويلٌ للمصلين" ولا يُكمل "الذين هم عن صلاتهم ساهون"سورة الماعون. والحق أن هذا ليس ترخيصًا من الله بالكفر وإنما هو تهديد ووعيدكما قال ذلك الطبري في "تفسيره" وغيره من المفسرين. ومن قرأ سياق الآية عرف المراد قال تعالى: {وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سُرادقها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا} سورة الكهف. فأين الترخيص يا عقلاء؟ وصيغة الأمر لغير معنى الطلب في كتاب الله كثيرة، قال تعالى: {اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير} سورة فُصِّلت، فهل يقول عاقل: هذا ترخيص من الله لنعمل ما نشاء من الفواحش وقد نهى الله في كتابه عن الفواحش؟! حاشا وكلا. قال الزّجاج في "معاني القرآن": "وكذلك "اعملوا ما شئتم" لم يخيروا بين الإيمان والكفر ولكنه جرى على خطاب العباد وحوار العرب الذي تستعمله في المبالغة في الوعيد، ألا ترى أن قوله بعد "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنَّا أعتدنا للظالمين نارًا أحاط بهم سُرادقها" فهذا مما يؤكد أمر الوعيد".

وفي هذا مقنَعٌ ولولا خشية الإطالة لأوضحت معنى بعض النصوص الأخرى فإن حسن الفهم نعمة عظيمة.

والحمد لله أولًا وآخرًا.

3