التويجري الكبير والحقيقة الخرساء / د. عبد الحسين شعبان
أكاديمي ومفكر عراقي
الشراع 16 كانون الثاني 2025
لا يسعني وأنا أدخل منزل التويجري الكبير في الرياض بعد رحيله، إلا وينتابني إحساس غريب وغامض، فكأنني أراه وأحس بوجوده، بل يطرق سمعي بين الحين والآخر صدى من صوته وكأنه حاضر بيننا، فهو موجود في كل زاوية من زوايا المكان، هيبته، مكتبته، ضيوفه، وقبل كل شيء حديثه المعطّر بالحكمة والفلسفة والشعر، فقد عرف الحياة وخبرها وكان شاهداً عليها طيلة نحو قرن من الزمان، لم يدع لحظة تفلت من بين أصابعه، كأن لسان حاله يقول أريد الدنيوي والأخروي، الراهن والمستقبلي، الحياة والخلود، فقد كان يردد: "اعمل ليومك كأنك تموت غدا، واعمل لآخرتك كأنك تعيش أبدا".
لم أشأ رغم مرور نحو عام على رحيل عبد العزيز التويجري كتابة رثاء عنه فلست بكاتب مرثيات، رغم أنني أحترم طقوس المراثي والعزاءات لاسيما للأقمار المنيرة التي تغادرنا، فربما هناك من هو أجدر مني بكتابة الرثاء، كما لا أجيد خطابات المدائح وهي عادة مألوفة في مثل هذه المناسبات، لأنني لم أعتد عليها ولم أمارسها في حياتي.
ولكن بعد حين شعرت بأن ثمت " إقراراً " واعترافاً لما حصل، وربما بالإكراه وهكذا تبدأ مع الكثير من الأشياء الكبرى التي نرفضها أحياناً ولكن ليس بإمكاننا تجاهلها، فيصبح ما هو غير اعتيادي أمراً واقعاً، لاسيما بعد مضي الزمن وكأنه شيء اعتيادي فالموت يغدو مثل الحب والمرض والشيخوخة يعيش إلى جوارنا، يصاحبنا ويلاصق بيوتنا ويدخلها دون استئذان، يخطف أحبتنا وحكماءنا، يفاجئنا هادراً مثل ريح عمياء.
كان الروائي العراقي شمران الياسري " أبو كاطع " يخاطب شجرة التفاح البيضاء، يقول لها: لا تلبسي الحداد ويناشد مواسم الحصاد والعشق، بألاّ تذرف الدموع، ويحاكي نخيل البلاد البعيدة بألاّ ترتدي ثياب الحزن، بل علينا الصلاة على الغائبين وطلب المغفرة والرحمة.
وأنا أستذكر التويجري الكبير كنت أردد صرخة فاوست: قف أيها الزمن ما أجملك، لكن الزمن يمضي غير عابئ بصرخاتنا وصيحات الأحبة، يمضي سريعاً ودون أن يلتفت، فلعله متربص بطبيعته، لا يعرف التوقف، مخاتل وخادع وماكر ولعين مثل الموت.
كان هاجس البشر منذ الأزل وما يزال، هو الفكاك من الموت والبحث عما يساعد على دفع هذا " القدر المحتوم" و" الحقيقة المطلقة " أو تأجيلها أو نسيانها، لكن هذه الحقيقة التي نريد نسيانها تأبى هي أن تنسانا، وهذا ما ورد في القرآن الكريم "كل نفس ذائقة الموت" فالإنسان لا يستفيد مما يشغله إلاّ تحت هول الصدمة أحياناً، حين يختطف الموت عزيزاً أو يغيّب غالياً، فتراه يهرع لنزع ثوب الحماقة والمكابرة، ولكن سرعان ما يطويه النسيان، فيخفت التواضع ويقلّ وهج الحكمة، لينشغل مجدداً دون أن يدع كلمة الموت أو دلالة التواضع تأخذ حيّزاً من تفكيره.
الموت الغاشم يداهمنا وعلى حين غرّة دون أن يعطينا فرصة أو لحظة نفكّر، ولعل ملحمة غلغامش قد أكدت حقيقة بسيطة منذ عهد سحيق،وهي أن الإنسان صائر إلى زوال فبعد أن أفنى حياته بحثاً عن نبتة الحياة أو عشبة الخلود عاد وسلّم بالحقيقة الوحيدة التي تكاد تكون مطلقة وهي الموت، تلك الحقيقة التي اكتسبت بُعداً إنسانياً حين تساوقت مع العدالة التي وجدت تعبيراتها في العراق القديم، بألواح وتشريعات كانت مسلة حمورابي أبرزها وأكثرها شهرة.
فبعد مسيرة مضنية لبطل الطوفان غلغامش وهو يفتش عن " أوتانابشيم" يقول في حوار ورد على لسان "سيدوري" إحدى حوريات الماء التي التقاها بعد نجاته، مهتزاً لموت صديقه أنكيدو مردداً:
وجدت حياتي .. أينبغي إذن أن أموت أنا أيضاً، كما مات أنكيدو؟
إن اليأس يملأ قلبي،
فتخاطبه سيدوري عند تلك الضفة النائية:
" إلى أين تمضي على هذا النحو يا غلغامش
إنك لن تعثر أبداً على حياة الخلود التي تبحث عنها
فحين خلق الإله البشر
قدّر عليهم الموت وجعل الخلود لنفسه وحده..."
إن الكائن الحي غير قادر على تبديل سنن الحياة التي وجدت منذ الأزل، فقد بقي الزوال "ضرورة لكل الكائنات الحية"، وقد ظلّ الانسان يدور في إطار تلك القوانين والسنن والشرائع، دون أن يتجاوز الحتميات الخرساء التي تفضي في آخر المطاف، إلى انهاء تلك الحيوات الناجزة المزدهرة بضربة واحدة لتقطع ما تراكم وتعمق واقترنت به الذاكرة وترك تأثيره على ما حوله مرة واحدة وإلى الأبد.
هكذا غادرنا التويجري الكبير، ولم نكن نريد لآفة النسيان أن تمر فنحن نستذكره دوما لاسيما في مهرجان الجنادرية الذي كان إنجازاً يسجل له وباسمه، يوم استوعب هذا القدر من المثقفين المتميزين، المتنوعين، المختلفين، اليساريين واليمينيين في إطار موحد، أساسه احترام حرية الاختيار والكلمة والثقافة والإبداع.
واستذكر التويجري الكبير يوما زيارة الجواهري الكبير إلى الرياض بصحبة الشاعر عبد الوهاب البياتي تلك التي أثارت ضجة وردود افعال وتقوّلات ما أنزل الله بها من سلطان، ومثل كل مرة كان يبدي إعجابه بمسيرة الجواهري الشعرية، فعادت به الذاكرة إلى قصائده القديمة تلك التي يتحدث فيها عن الحقيقة المطلقة منذ فجر التاريخ الأول، ذلك اللغز الذي عذّب البشر وما زال يعذبهم دون جدوى، قلت له: نحن الهاربون منه إنه يتبعنا وكأنه ظلّنا، فردد على مسامعي قصيدة الجواهري المهداة إلى الشاعر معروف الرصافي:
لغزُ الحياة وحيرةُ الألباب /أن يستحيل الفكرُ محض تراب
أنا أبغضُ الموت اللئيم وطيفه /بُغضي طيوف مخاتل نصّاب
ذئبٌ ترصّدني وفوق نيوبه/دمُ إخوتي وأحبتي وصحابي
فرددت معه قصيدة الجواهري:
فالموت يدرك كل ذي رمقٍ/كالنوم يدركُ كل من نعسا
والمرء مرتطم بحفرتــه/من قبل أن يهوى فيرتكسا
جهمُ يقيم على مدارجنــا/وعلى صدى أنفاسنا حرسا
تعيــا أزاهير الربى نطقــت / بعبيـر بسمته إذا عبسا
اليوم وأنا استفزّ الذاكرة، فتفيض المرارة الغامضة التي يتركها الموت فينا، فتصبغ الحيرة والهمّ والشكوك حياتنا كلها، مهيمنة على سحر الظاهر فضلا عن تعلقها بصميم الباطن، أي بدواخل النفس البشرية، حيث يعصف الموت مستبداً وبلا رحمة وبغفلة، بالإنسان موقفاً حياته إلى الأبد "لا يستعجلون ساعة ولا يستأخرون" هكذا يأفل نجم أو ينطفئ شهاب، وحسبي هنا أن أردد مع كازنتازاكي " الحياة فظيعة ونحن لا نشعر بذلك ونبددها في تفاهات بائسة ولا نكتشف سيرنا نحو الهاوية إلا ونحن عند موت عزيز".
لقد ترك لنا التويجري الكبير سيرة فريدة غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ، فقد كان مبدعاً وإنساناً على قدر من الاستثنائية والتفرد والاستقامة والحكمة، عكستها أسفاره ومؤلفاته وكتبه ومواقفه، ومع هذه الثروة الفكرية والثقافية النادرة، ترك لنا باقة ورد بشرية، تزدان بها الموائد وتحفل بها المجالس، عزمتْ على السير في الطريق الذي اختاره، لاسيما طريق الوسطية والاعتدال والتسامح وحب الخير!!