بيروت | Clouds 28.7 c

((وديعة)) خالد عبدالناصر لـ((الشراع)): ((5))عندما قال خالد عبدالناصر ان حافظ الأسد مصاب بالالزهايمر /كتب: محمد خليفة

*شكوك حول وفاة خالد.. ومبعث الشك العقيدة الاسرائيلية وسلوك الموساد بقتل من يستهدف اسرائيلياً

*بعد زيارة دمشق قال لي خالد: ان حافظ الأسد مصاب بالألزهايمر

*حافظ الأسد امتدح مبارك وقال انه رجل وطني مخلص

*خالد طلب في دمشق زيارة سجن المزة وعندما سأله الأسد عن السبب قال لأنه أحد مواقع التاريخ السوري

 

تكملة لما ورد في الحلقة السابقة من ((ملف وديعة خالد عبدالناصر)) لـ ((الشراع)) فإن التركيز في هذه الحلقة يتناول وقائع العلاقة بين خالد عبدالناصر والنظام السوري وتفاصيل زيارة قام بها الى دمشق واجتماعه مع حافظ الأسد.

 

زيارة دمشق

 

وفي أواسط شهر حزيران/ يونيو 1995 زارني خالد للمرة الثالثة في ستوكهولم, وكنت قد كتبت له رسالة عن تحركات مريبة حولي من جهات اسرائيلية, وقلت له: ربما كانت بسبب علاقتي معه, وطلبت تقديره للأمر.

في هذه الزيارة كشف لي خالد أنه زار دمشق قبل فترة وجيزة. وقال لي أنه حظي بترحيب كبير من كل أركان النظام السوري, ولا سيما الرئيس الراحل حافظ الأسد, ونائبه عبد الحليم خدام ووزير الدفاع العماد مصطفى طلاس, وآخرين. وروى لي أشياء طريفة ومهمة في آن واحد, وخصوصاً لقاءه بحافظ الأسد.

قال لي: من السهل جداً أن تلاحظ أن حافظ الاسد مصاب بألالزهايمر, وأنه لا يحدث زواره إلا عن الماضي البعيد, ولا يتطرق للحاضر في أحاديثه, مما يشير الى أنه يتذكر الماضي البعيد, ولا يتذكر القريب, وهذا الأمر من أعراض الالزهايمر.

 وقال لي: أثناء استقباله لي كان يقف خلفه شخص مهمته أن يساعده على النهوض من كرسيه عندما يريد, ويساعده على الجلوس والحركة.

وأضاف: كان لعاب حافظ الاسد يسيل من فمه, وكان مساعده يمده بالمناديل الورقية ليمسحه, أو يقوم هو بمسح لعابه بنفسه.

وقال لي د. خالد: حافظ الاسد هنأني على السلامة والبراءة من ((القضية)) وطلب مني أن أكون حذراً من الاسرائيليين والأميركيين. وأنه قال له: اعتقد أن الرئيس مبارك لن يتخلى عن واجبه في حمايتك. وهو ((رجل وطني مخلص)) برأيه!

ومن الأشياء الطريفة التي حدثت له في دمشق ورواها لي أنه حين وصل الى دمشق أنزلوه في فندق الشام, ثم جاءه موظف رفيع من البروتوكول الرئاسي, وسأله عن الاماكن والمواقع التي يحب مشاهدتها والاطلاع عليها, لكي ينظموا له برنامجاً لزيارتها, فقال له خالد: أنا متشوق لزيارة سجن المزة وأطلب منكم وضعه على رأس البرنامج, وأدع لكم اختيار بقية الأماكن, فارتبك الموظف ونظر الي بإستغراب ودهشة قائلاً: سجن المزة..؟؟

فأجابه: نعم سجن المزة, لماذا أنت مندهش..؟؟

فرد المسؤول باقتضاب: أمرك سيدي!

وتابع خالد رواية الحادثة: لم يبلغني أحد بعد ذلك شيئاً عن زيارة المزة أو غيره من فقرات البرنامج (!) إلى أن أبلغوني بعد عدة أيام بموعد استقبال الرئيس لي في قصره مساء للعشاء على مائدته. وعندما أدخلوني عليه وجدته واقفاً ينتظرني وهو يضحك ويقول لي: خالد هل جئت من القاهرة الى الشام لكي تزور سجن المزة..؟ شو القصة..؟؟ هل لك شخص معين تريد زيارته في السجن؟؟!

فأجابه: لا سيدي.. ولكن اسم سجن المزة راسخ في ذاكرتي  منذ أن كنت طفلاًَ. كثيراً ما كنت أسمع الإسم وأنا أتابع أخبار سورية, وأسمع قصصاً عنه وعمن يدخله, وأعرف أن فلاناً من كبار الشخصيات السياسية قد أعتقل وأودع سجن المزة, أو أن فلاناًَ من السياسيين والعسكريين قد أفرج عنه وخرج من سجن المزة, وعين في الحكومة أو السلطة بمنصب جديد..! لذلك ارتبط أسم السجن في ذاكرتي بأنه مستودع تاريخ سورية الحديث, وأن من لا يزوره يتجاهل موقعاًَ مهماً جداً من مواقع التاريخ السياسي السوري, إنه أهم من المتاحف والمواقع الأخرى.

 هذا هو السبب يا سيدي!

قال لي خالد: كان حافظ الاسد يضحك بصوت عال وأنا أشرح له أسباب فضولي لزيارة سجن المزة, وعندما انتهيت من الشرح, قال لي: لقد طلبت منهم أن ينظموا لك زيارة غداً للسجن, ومقابلة مع من تريد من السجناء أيضاً, وبالفعل زرت سجن المزة.

وحكى لي خالد شيئاً مما دار في استقبال العماد طلاس له, فقال لي: لقد احتفى بي وزير الدفاع وزوجه التي قالت له: حتى تعرف كم نحبك ونحب والدك رحمه الله, حرصت أن أحضر العشاء لك بنفسي. كل ما تراه على المائدة أنا أعددته!

قال لي خالد: كانت مائدة عامرة جداً, وللمرة الاولى عرفت أنكم تعدون المحشي بورق السلق بدلاً من ورق العنب!!

وأضاف: عدت من الشام مبهوراً بمطبخها الغني واللذيذ, وتذكرت تصريح هنري كيسنجر عن المطبخ السوري!

ثم استدرك ضاحكاً: في الواقع هناك أشياء كثيرة بهرتني في سورية لا مطبخها وحسب.

قلت: مثل ماذا..؟ أريد أن أعرف ما الذي بهرك في سوريانا الأسدية..؟

قال بهرتني ((عبادة الفرد)) في سورية, فكل من يزورها, ولو لأسبوع واحد, ويتجول في ميادينها العامة, ويتحادث مع أهلها سيكتشف فوراً حجم ومدى الخوف الذي يسكن قلوبهم من ظل وهيبة ((الحاكم بأمر الله)) الذي تنتشر صوره وتماثيله في كل مكان وعلى كل شيء.

وأضاف أيضاً: لاحظت أن الخوف من الأسد يشمل المسؤولين في النظام والدولة أيضاً, ولاحظت أن كل مسؤول تسأله شيئاً أو تقدم له فكرة يقول لك فوراً : سنرفعها الى السيد الرئيس.. أو لا بد أن يوافق عليها الرئيس أولاً.

وقال خالد: بهرني رعباً إصرار الرئيس على توريث الحكم لإبنه فهو أمر تتحسسه وأنت في دمشق مع الجميع من فوق الى تحت! والمسؤولون الكبار يتداولونها فيما بينهم وكأنها حتمية تاريخية لا محيد عنها. وقال: سورية تختلف عن كل البلدان العربية, وربما لا مثيل لها في العالم. بلد يحكمه رجل واحد بقوة وقسوة, والكل يطيعه ويخافه ويهابه.   

ثم فاجأني خالد ذات مرة ونحن ننتقل من موضوع الى آخر في هذا الحديث عن وقائع زيارته وانطباعاته عنها باستدارة مفاجئة, أو سؤال مباغت:

محمد رأيك إيه ترافقني في زيارتي الثانية الى دمشق قريباً..؟

صمت ووجمت قليلاً, ثم استعدت حضوري ووعيي, وأخذت الأمر بشكل جدي وقلت لخالد: يا عزيزي أنت تعلم موقفي من حكام سورية, وتعلم مدى عدائي وكرهي للنظام, ثم إنك تعلم أنني مطلوب لأجهزة الأمن, فهل تريد تسليمي لهم ((قلتها على سبيل الدعابة وأنا أضحك))..؟!.

تحول هو أيضاً الى الجد وقال لي: لقد حدثتهم عنك, وقالوا لي: أحضره معك في المرة القادمة, وأهلاً وسهلاً بك وبه!

سألته: هل ذكرتني أمامهم بالإسم..؟

أجاب: نعم.

سألته: كيف..؟ في أي مناسبة ذكرتني لهم..؟

قال: كنا نتحدث عن وجود آلاف السوريين المميزين الذين يحملون شهادات علمية وتخصصات مهمة, ويتميزون بمواهبهم وطاقاتهم المبدعة, والذين يمثلون ثروات بشرية ثمينة ضائعة في الخارج, وتستفيد منها تلك البلدان, ونصحتهم بالعمل على اعادة هؤلاء الى سورية والاستفادة من طاقاتهم ومواهبهم وإمكاناتهم.

وتابع: في هذا الحديث ضربت لهم مثلاً بك, وقلت لهم لي صديق سوري أحترمه وأحبه وله مكانة خاصة عندي ولكنه لا يستطيع العودة بسبب ملاحقة أجهزتكم له, فسألوني: من هو..؟ فذكرت لهم اسمك, فردوا علي: قل له , فليعد على الرحب والسعة, وسيكون موضع عنايتنا ورعايتنا حتماً.

قلت لخالد: سامحك الله على هذه الخطيئة.

رد: ولماذا تعتبرها خطيئة, لقد وجدت من واجبي أن أستغل حفاوتهم بي لأطلب منهم حل مشكلتك والصفح عنك وإنهاء مشكلتك, وهذه فرصة لتزور بلدك وتلتقي بأسرتك وأصدقائك, أم تريد البقاء في الخارج حتى تموت..؟!

دخلنا في حوار طويل, شرحت له الوجه الآخر لنظام الاسد, القمعي والإجرامي والمعادي للمثقفين والمعارضين, والرافض لأي اصلاح, والذي يزيد بطشه بالمعارضين والمثقفين مع الوقت, وسردت له تجربة الناصريين مع هذا النظام منذ 1963 وحتى اليوم.

ثم قلت له: أريد أن تتذكر أن علاقة المعارضين السوريين بنظام حكمهم ظلت تاريخياً تختلف اختلافاً جذرياً وعضوياً عن نظرة المعارضين المصريين للسلطة أو للنظام الحاكم في بلدهم, أياً كان ومهما كان.

وتابعت له شرح هذه الفكرة التي أوقعته في الخطيئة: أنتم في مصر تنظرون للحاكم أياً كان كفرعون لا بد من التقرب منه والرضوخ له, وتتجنبون إغضابه إلا في حالات استثنائية كما فعلت سيادتك في السنوات الماضية. أما نحن، السوريين، فنستمد قوتنا وقيمتنا في مجتمعنا وشعبنا بمقدار بعدنا عن السلطة, ومدى معارضتنا لها, أو للسلطان أياً كان!

 ناقشنا أنا وخالد هذا الأمر على مدى ثلاثة أيام, وبينت له أسباب رفضي لزيارة بلدي بهذ الطريقة التي ستفقدني سمعتي وشرفي بين الناس, ثم ختمنا الحوار بالاتفاق على تجاوز هذا الخلاف, وقال لي: أنت أدرى بقضيتكم, وأنا أحترم رأيك وموقفك, وإذا شئت أن تعود لبلدك, فسأذهب معك لكي تطمئن, وإذا شئت أن تتجاهل الأمر فأنا أحترم موقفك.

قلت له: يا دكتور أنا على صلة مع عشرات الأصدقاء السوريين المعارضين المنتشرين في العالم بسبب الملاحقات الأمنية, ونحن جميعاً متضامنون في هذا الشأن, ونريد العودة, اليوم قبل الغد, ولكن بشرط ألا يعتقل أحد منا, أو يحقق معه كأنه مشبوه أو متهم بإرتكاب خيانة عظمى, فنحن حملنا إسم سورية طوال سني الغربة والنفي, وليس بيننا من تخلى عن وطنيته أو خان بلده وشعبه, بينما النظام يمعن في الاستبداد والفساد وتكميم أفواه الناس في الداخل, والخارج , ويمعن في إفقارهم. كما يوغل في التفريط بحقوق الناس والعباد.

وتابعت حديثي الى خالد: إذا عدت يا دكتور الى دمشق فانصحهم أن يفتحوا ابواب البلد لجميع المعارضين بلا قيد ولا شرط, ليس لي وحدي فقط, ولكن للجميع, وأن يوقفوا التعامل معهم والتحقيق مع كل واحد كخائن, أو فار من وجه العدالة, يتعين عليه اثبات براءته من هذه التهم الزائفة, وأن يغيروا سياستهم تجاه المعارضين في الخارج, ويسهلوا عودتهم لبلادهم.

ووعدني خالد بنقل وجهة نظري وموقفي للسلطات السورية العليا, إذا كانت تريد كسب مواطنيها المتعلمين والمبدعين والمصلحين, وإذا كانت راغبة في إنهاء ظاهرة المعارضة في الخارج, وتهيئة البلاد الى انتقال ديموقراطي تدريجي.

 ولكن خالد والحمد لله لم يعد الى دمشق بعدها أبداً حتى توفاه الله, بل بقيت تلك الزيارة يتيمة لا قبلها ولا بعدها, منذ أن كان طفلاً صغيراً في العاشرة من عمره ورافق أباه في رحلاته الى الشام أثناء فترة الوحدة وتجربة الجمهورية العربية المتحدة 1958 - 1961.

 صارت زيارة 1995 الأولى والأخيرة في حياته, وكان عنوانها البارز, وأهم فصولها هو زيارة سجن المزة التاريخي في دمشق. وأنا أعتقد جازماً أن خالداً هو الشخصية العربية الوحيد الذي زار دمشق بدعوة رسمية, وطلب من سلطاتها هذا المطلب الاستثنائي العجيب الذي فاجأ حافظ الاسد وأعوانه, وتبين منه أن زيارة سجن المزة تتطلب موافقة رئيس الدولة الذي لا ينام إلا ومفاتيحه في يده وتحت وسادته. كيف لا والجنرال الأسد أودع خصومه ومعارضيه واعداءه الداخليين جميعاً وراء قضبان هذا السجن التاريخي الذي يعتبر بحق وعن جدارة رمزاً لسورية الحديثة, ولا سيما في عهد البعث - الاسد!!

وتجدر الاشارة الى أن خالد زار بيروت في هذه الفترة أيضاً والتقى بأمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله.

 

في الحلقة المقبلة: خطة خالد عبدالناصر

 للتصدي لحسني مبارك

 

الوسوم