بيروت | Clouds 28.7 c

قصة الصباح - من البرازيل / عن جمال عبد الناصر .. في ذكرى مولده الواحد بعد المئة - بقلم: مواطن عربي


-سألني: هل أنت عربي? فأجبته: نعم.. فقال: لعلك متفاجئ من سؤالي, خصوصًا أن الجميع هنا في البرازيل يسمونكم ((توركو)) ويعتقدون أنكم أتراك.. قلت: فعلاً.. لكن بماذا أستطيع مساعدتك?.. قال: علمت أنك عربي, فأحببت أن أتعرف عليك وربما نصبح أصدقاء.. اسمي ((انطونيو كونيا)), مفتش سابق في مصلحة الكهرباء.. لقد تقاعدت منذ 5 سنوات, وأنا اليوم أتابع تحصيلي العلمي, وقد اخترت قسم التاريخ. 
نظرت إلى الرجل بدهشة واحترام, عرَّفته بإسمي وأثنيت على إرادته التي لا تعترف بالعمر ولا تقادم السنين. دعوته الى الجلوس فبادرني قائلاً: أنا أحب العرب رغم كل ما يقال عنهم, ورغم كل ما يمرون به من تدهور في حياتهم..  لقد أحببتهم بسبب رجل كان يدعى ((ناصر)) هل تعرفه يا صديقي?? كان رئيساً لمصر وزعيمًا عالميًا بامتياز, ربما أن جيلكم لا يعرفه.. هل تعلم أن هذا الرجل الكبير كان سببًا في توظيفي أنا وآلاف العمال??.. رمقت الرجل السبعيني بإستغراب,لم أشأ إخباره بأنِّي أعرف عبدالناصر, لأن ما قاله عن وظيفته كان للوهلة الأولى كلامًا غير مفهوم إطلاقًا بالنسبة لي فسألته: سيد ((انطونيو)),كيف لرئيس مصر أن يكون سببًا في وظيفتك? قال سأشرح لك: كنا مجرد موظفين عاديين في بداية حياتنا وشبابنا,لم يكن عمري يومها سوى تسعة عشر عاماً, أعمل في مصلحة الكهرباء حوالى أربع عشرة ساعة يوميًا, من الاثنين إلى السبت, ونهار الأحد كنت أعمل حوالى ست ساعات. 
لم نكن نحصل على ساعات إضافية, ولا تأمين صحي, ولا أجر كاف, وكنا كلما اعتصمنا للمطالبة بحقوقنا وتخفيض ساعات العمل, ينزل علينا غضب الحكومة, فتصرف بعضنا, وتعتقل من كانوا يسمون بمثيري الشغب, وفي كثير من الأحيان كنا نضرب بالهراوات, ونسحل في الطرقات. لم يكن وضع العمال في القطاعات الأخرى أفضل, وفي سنة 1956, وبعد اتصالات طويلة وسرية بين العمال, قررنا جميعًا, موظفي الكهرباء, مرورًا بعمال شركات السيارات, إلى موظفي السكك الحديدية, والموارد المائية والبريد إلخ.. أن نتوقف عن العمل ونعلن عصيانًا مدنيًا حتى تتحقق مطالبنا. 
كنت ضمن الوفد الذي توجه الى عاصمة الولاية ليمثل موظفي المصلحة في منطقتنا, وعندما اكتمل النصاب في القاعة المقررة, التي منها سيصدر القرار الجماعي بالإضراب، دخل أحد النقابيين مذعورًا وقال لنا: إن الاستخبارات قد علمت بخطتنا, وقد أخطرني أحد الأصدقاء بأن قوات الجيش سوف تحاصر المكان وتعتقل الجميع وترميهم في السجون, وسوف نعتبر جميعًا (شيوعيين), وهذه تهمة الموت كما تعلمون أيها الرفاق. 
علت في المكان أصوات التذمر والخوف, وبدا الانقسام واضحًا, فمنا من يريد التراجع, ومنا من يريد الانتظار, ومنا من يريد المواجهة, غير أن القسم الأكبر قرر فض الاجتماع وأن يعود كل منا من حيث أتى. 

فجأة.. صعد أحد الرفاق إلى المنبر وصرخ في مكبر الصوت.. مهلاً.. مهلاً يا رجال, انظروا إلى عناوين الجرائد اليوم, انظروا إلى الجريدة التي في يدي.. إن رئيس مصر ((ناصر)) أعلن تأميم قناة السويس, ولم يرضخ للتهديدات العالمية, وهو يقاتل منذ أربعة أيام أعتى امبراطوريتين على وجه الأرض, بريطانيا وفرنسا ومعهما ((إسرائيل))..  أنتم تعلمون اختلال موازين القوى بينه وبينهم, لكنه يصر على أن يأخذ حقه, فهل تخافون الهراوات, بينما المصري لا يخشى القنابل?? .. وتابع صديقي ((انطونيو)) يقول: قررنا بعد ساعة من المشاورات أن نكمل مسارنا, وقررنا الإضراب العام, اشتعلت المعارك بيننا وبين الحكومة.. ضربنا, سحلنا, منا من مات, ومنا من سجن, وفي النهاية حصلنا على حقوقنا بعد أشهر, منها تثبيتنا في الوظيفة..  لذلك قلت لك أن ((ناصر)) كان سببًا في توظيفي, وبالتالي توظيف الآلاف مثلي, لأنَّ صموده في معركة السويس كان ملهمًا لكل المحرومين والتواقين إلى الحرية في العالم.. إنَّ رجلاً كـ((ناصر)) لن يتكرر بسهولة.. أنا أحبه.. أنا مدين له.. وأحب العرب لأجله, لقد أعاد لنا الثقة في أنفسنا والأمل.. هل تتصور حجم ما غيره ((ناصر)) في حياتي..؟؟ 
تابعت حديثي الطويل مع صديقي البرازيلي ((الناصري)), محاولاً أن أفهم حقًا حجم ذلك الرجل الذي وصلت أفكاره وأثَّرت حتى في حياة صديقي الجديد ((انطونيو)), وزدت يقينًا أن حجم الحروب التي شنت عليه وضده إلى اليوم, هي بحجم رمزيته العالمية.. وعظمته.
تحية الى جمال عبدالناصر في ذكرى ميلاده الذي يتجدد دائماً مع كل اشراقة أمل وصباح.. والذي ينتظر منا بهذه الذكرى ميلاد الأداة التي تناضل فكراً وعملاً من أجل إعادة الاعتبار لمشروعه الحضاري الذي قضى العمر كله واستشهد من أجله.
 

الوسوم