بيروت | Clouds 28.7 c

((وديعة)) خالد عبدالناصر  لـ ((الشراع) (3):خالد عبدالناصر: من النضال المسلح الى النضال السياسي / كتب: محمد خليفة

  • *خطط خالد لمواجهة حسني مبارك في انتخابات 2011
  • *أعد خطته السياسية لمنع التوريث وإنقاذ مصر وتجديد ثورة يوليو
  • *أقام علاقة ((تطبيعية)) مع الاخوان وكل التيارات ليكون مرشحاً وطنياً لا ناصرياً
  • *زار بغداد ودمشق وصنعاء وطرابلس الغرب وبيروت
  • *هل مات خالد ومحمود, أم قتلتهما الموساد؟

لقراءة الجزء الاول والثاني ? يرجى النقر على الرابط ادناه?

((وديعة)) خالد عبدالناصر لـ ((الشراع)) (2): كامب ديفيد مثل زلزال دمّر الاهرامات / كتب: محمد خليفة

جاءت نهاية ((تنظيم ثورة مصر)) أسرع مما كان يتوقعه خالد عبدالناصر ورفاقه, وترتب على انكشافه, نهاية النضال المسلح, ما مثل ضربة قاسية لآمال الرجل, خصوصا أن أعضاء التنظيم دينوا, وحكم عليهم بالحبس لمدد طويلة, وحكم على محمود بالمؤبد. والأدهى أنه أمسى تحت مجهر أمني دقيق لإستخبارات الأعداء, يراقبون تحركاته وسكناته ويترصدونه ويلاحقونه داخل وخارج مصر. ولذلك خصصت له الدولة بعد عودته من المنفى, وتبرئة المحكمة له, قوة حماية أمنية له ولأسرته ترابط أمام المنزل, وترافقه في تنقلاته حيثما تحرك أو حلّ, بحجة حمايته من أيدي الاسرائيليين والاميركيين الطويلة.

وفي الواقع كانت وظيفة هذه القوة مزدوجة, لا تقتصر على حماية خالد, بل تستهدف وضعه ووضع تحركاته تحت مراقبة محكمة أيضاً, ومراقبة من يدخل ويخرج من منزله.

شخصيته الانسانية والسياسية:

 

على أي حال كان ((النضال المسلح)) مرحلة من مسيرة خالد, لأن الأصل هو النضال السياسي الذي بدأه منذ كامب ديفيد, وكان عليه بعد نهاية تجربة النضال المسلح مواصلة هذا النضال بكل الوسائل الأخرى.

خالد رجل مفطور على السياسة ومجبول بها بالوراثة والتجربة. يهتم بالفكر والشؤون السياسية العامة العربية والدولية. يؤمن ايماناً راسخاً بالقومية العربية, وتلمس ذلك في مفردات خطابه وحديثه اليومي, وهو يحب العرب, ولا يرى مجداً لمصر بمعزل عن أمتها, ولا يرى لها مستقبلاً من دون الوحدة العربية. وهو يؤمن بالعدالة الاجتماعية, ولا يهتم كثيراً بالمظاهر, ولا بالمناصب, شديد التواضع, لا يظهر أي قدر من الغرور أو الخيلاء, ولا يتحدث عن أبيه إلا إذا كان ضرورياً في سياق موضوع أو حوار, وعندما يذكره, نادراً ما يستعمل صفة أبي, بل يذكره باسمه الذي يتداوله الناس ((عبد الناصر)). ولم يكن يكشف هويته وإسمه لمن لا يعرفه إلا في حال الضرورة.

 وأحياناً حين نكون في الشارع كان خالد ((يتحداني)) أن أجد مصرياً عادياً في الشارع يذكر أباه بسوء. وذات مرة قال لي تعال نجرب: فكان يوقف مواطناً عابراً, أو بائعاً متجولاً, أو بواب عمارة, ويسأله: انت رأيك إيه في الرئيس عبدالناصر؟, ولم نسمع أحداً يذكره إلا بالخير والمحبة والتبجيل!

ويتصف خالد بالوفاء لأصدقائه ومعارفه, وكان يبادل الناس الحب بحب أكبر, وكان كريماً وسخياً بشكل تلقائي, ومن دون تظاهر. ومن أغرب عاداته, أنه كلما خرج من منزله يملأ جيوبه بالفكة ((أوراق مالية من فئة الخمسة والعشرة والعشرين والخمسين جنيه)) لأنه حين يسير في الشارع أو السوق أو يجلس في المقهى, يتعرف عليه كثير من الناس فيسلمون عليه, ويترحمون على والده, فكان لا يدع أحداً إلا ويقدم له شيئاً من المال. وأحياناً يعطي لشخص واحد مائة جنيه. يمد يده ويسحب قطعة أو أكثر ويدسها في يده, أو جيبه بدون سؤال. قلت له: أتفعل هذا بإستمرار؟ قال ببساطة وصوت خافت بل دائماً. قلت له: هذا يكلفك كثيراً من المال, قال طبعاً. قلت: مرتبك لا يكفي, ضحك وقال معاشي الميري من الجامعة لا يكفي شيئاً!

 ومن عاداته ذبح الأضاحي في كل مناسبة, من رمضان أو عيد الفطر أو الأضحى , فيذبح عجلاً, أو بقرة, ويشرف بنفسه على توزيع لحومها على الفقراء. كان يصلي فروضه, ويذهب لمسجد الحسين والأزهر. حكى لي أنه في فترة من ايام الشباب انقطع عن الصلاة فرأى في النوم شخصاً مهيباً يقول له إذهب الى هذا المكان وصلّ, وكان المكان مسجداً من مساجد القاهرة, فصار يصلي من دون انقطاع. وفي يوم من الأيام رافقته الى مسجد سيدي الحسين ولفت انتباهي أن جميع العاملين هناك يعرفونه ويستقبلونه بحفاوة خاصة وزائدة ويفتحون له الأبواب التي لا تفتح إلا للشخصيات الرسمية. 

ملابسه عادية جداً, ولا يرتدي بدلة رسمية ولا ربطة عنق إلا في مناسبات قليلة رسمية أو شبه رسمية. وطعامه عادي أيضاً في بيته, مثل أي مواطن, ومثل أبيه الذي كان يتميز بطعامه البلدي جداً. أقراص الطعمية الطازجة حاضرة دائماً في عشائه, مع السردين. أول مرة زرته في مصر بعد عودته من يوغوسلافيا عام 1991 قابلته في بيته القديم, بيت شديد التواضع في عمارة شعبية جداً, تناولنا طعام الغداء, كانت الوجبة هي الباذنجان والأرز والسلطة فقط.

النضال بالسياسة

في هذا الفصل من ((الوديعة)) سنسلط الأضواء على نضال خالد السياسي في المرحلة التالية لإنكشاف التنظيم, وهي ما زالت غير واضحة, وغير مؤرخة, وخصوصاً:

  1. -نضاله خلال فترة وجوده في المنفى ((1987- 1990)) لتخفيف العقوبات على أعضاء التنظيم, وكيفية تعامله مع النظام المصري.
  2. -نضاله السياسي بعد نهاية المحاكمة.
  3. -خطته لمواجهة حسني مبارك.

أولاً - مرحلة المنفى:

غادر خالد القاهرة بشكل طبيعي ولكن على عجل يوم 10 كانون الأول/سبتمبر 1987, بعد أن بدأت مباحث أمن الدولة حملة اعتقالات لجميع أعضاء التنظيم.

كانت السفارة الأميركية في القاهرة بعد تحقيقها مع شقيق محمود نورالدين.. عصام وحصولها على المعلومات عن التنظيم قد اتصلت مع السلطات المصرية, وأعلمتها بإنجازها الكبير, وطلبت منها تولي التحقيق وتوقيف المتهمين, والتحقيق معهم حول الجرائم التي اقترفوها. وقد تولى جهاز ((أمن الدولة)) التحقيق في القضية, فقام بحملة سريعة لتوقيف أعضاء التنظيم الذين أبلغ عنهم عصام الاستخبارات الاميركية, وقدم كشفاً بأسمائهم وعناوينهم, وحدد أدوارهم في التنظيم المسلح, ومشاركة كل واحد منهم في العمليات.

وتم تكليف ضابط مباحث مصري كبير بقيادة فريق من رجال أمن الدولة لملاحقة المتهمين وتوقيفهم والتحقيق معهم. وقد اطلعتُ شخصياً على كافة تحقيقات المباحث, إذ سلمني خالد نسخة منها, كان محاموه ومحامو المجموعة يحصلون عليها, ويرسلونها اليه. قرأتها بإمعان رغم عدد صفحاتها الذي تجاوز الألفي صفحة.

ولاحظت خلال القراءة ((عدوانية)) الضابط المحقق وقسوته ومكره في اختيار الأسئلة للايقاع بهم, بهدف إثبات ضلوع أعضاء التنظيم كافة في الجرائم المنسوبة اليهم, وإدانتهم جميعاً في ((جريمة)) تشكيل منظمة سرية, وتوفير الأدوات اللازمة لممارسة الارعاب مع سبق الإصرار والترصد, والتخطيط المتعمد لإرتكاب جرائم قتل للدبلوماسيين الاسرائيليين والاميركيين, وحيازة أسلحة, والتآمر على أمن الدولة, والاضرار بعلاقاتها مع ((دول صديقة)).

 لم يكن هذا الضابط ((المقدم أسامة)) يدع حيلة أو وسيلة للايقاع بالمتهمين خلال الاستجواب الا ولجأ اليها. وربما كان يقوم بمهمته تحت رقابة مباشرة من الأميركيين والإسرائيليين أيضاً.

والجدير بالذكر أن أعضاء التنظيم اعترفوا للمحققين بكل ما نسب اليهم  لأن عصام كشف كل شيء, ولم يدع لهم فرصة للانكار أو مناصاً من الاعتراف.

في بداية هذه المرحلة, مرحلة الإقامة في بلغراد تعرفت على خالد, اتصلت به هاتفياً, أولاً, ثم زرته للمرة الأولى في بلغراد مع صديقي حمدين صباحي. وبعد شهرين توثقت العلاقة, وصرنا نفكر معاًَ ونبحث في كل ما يجب القيام به, فكانت لقاءاتنا الشهرية ومحادثاتنا الهاتفية اليومية, أنا وخالد لقاءات عمل وتشاور ولا سيما في تطورات ((القضية)) وأصدائها, نتحدث في كافة المسائل العامة والخاصة, ومع الوقت لم يعد يخفي عني شيئاً, بما فيها الأمور الخاصة جداً ! وكنت موضع ثقته التامة, ولاحظ كل من معه هذه الثقة. في إحدى زياراتي له, كان يستضيف الكاتب والناشط السياسي المصري الصديق أمين اسكندر, وبقينا عدة أيام معاً وحين ودعني أمين قال لي: إحرص على البقاء مع خالد, إنه يستمع لك, ويثق بك, لذلك يجب أن تبقى بجانبه في هذه المرحلة الصعبة التي يمر بها.  

 يمتاز خالد بشخصية قوية, لم تضعف أمام التحدي بعد انكشاف التنظيم وملاحقته. ذات مرة قلت له, قواك الله على تجاوز الأزمة. فقال لي: أي أزمة؟ هل تعتبر هذه أزمة..؟ أنا لا اعتبرها أزمة, أنا في مواجهة مع العدو, اخترتها عن طيب خاطر وقناعة.

 كان معتزاً بما قام به, ولا يتردد في التصريح عن مواقفه وإصراره على المواجهة مع الاسرائيليين, إلا أنه رغم ذلك عاش  مرحلة قاسية انسانياً في بلغراد, وكنت أحياناً أراه مهموماً وحزيناً, وألاحظ أحياناً عليه أعراض كآبة تظهر على وجهه, ويستغرق في التفكير ويأخذه الشرود, حتى تتغير ملامح وجهه, ويمتقع بلون داكن, لا بسبب المواجهة السياسية نفسها, إنما بسبب تبعاتها الانسانية, وحزنه على وجود أعضاء التنظيم في الحبس, وخصوصاً محمود, وكأنه كان يشاركهم آلامهم ومعاناتهم في الزنازين, ولا يدخر فرصة إلا ويستغلها في إرسال الرسائل لهم عبر المحامين.

وكان يخشى أن تطول الأزمة , فتطول إقامته في بلغراد على حياة أولاده ودراستهم. واضطر في العام الأخير للانتقال الى سويسرا ليضمن متابعة أولاده تعليمهم. كان الثلاثة في المرحلة المتوسطة. وكان من ((مهامي الشخصية)) تزويد الثلاثة بالكتب الادبية الجديدة! وكان لابنته الكبرى (تحية) ميول أدبية أصيلة ومحاولات شعرية ناضجة, واطلعت على قصيدة عن الانتفاضة الفلسطينية, كتبتها بالانكليزية, وقصيدة أخرى بالعربية, وكان الثلاثة يحبون القراءة والثقافة ومتابعة القضايا السياسية العربية.

وكان خالد يتابع تطورات القضية, وتداعياتها العامة, بجوانبها السياسية والقانونية والاعلامية كافة, وارتداداتها في العالم العربي, وكان يتابع مظاهر التضامن معه في البلدان العربية, ويرحب بتطوع محامين عرب للدفاع عن المتهمين, وكان معجباً بالمحامي الأردني حسين مجلي ومرافعته القومية القوية أمام المحكمة.

 وكان اهتمامه يمتد الى التفاصيل الخاصة, والانسانية الصغيرة, وذات مرة زودني بهاتف بنات نورالدين لأحادثهن باستمرار, بهدف رفع معنوياتهن, لأنهن كن حزينات وخائفات على والدهن المعتقل, ووقعن تحت تأثير الحملات الاعلامية المسيئة له, واتهامه بالارعاب, ووصفه بالمجرم والقاتل, فكان خالد يطلب مني ومن غيري الاتصال بهن, ومحادثتهن عن بطولة والدهن, وشجاعته وقيمة ما فعله في نظر العرب جميعاً.

 وكان مهتماً على نحو خاص بما تكتبه الصحف المصرية والعربية والأجنبية عن القضية وعنه.

 وكان يستقبل زواراً عرباً من سفراء الدول العربية في يوغوسلافيا, الى اتصالات مسؤولين كبار من دول عربية متعددة, كالعراق, واليمن, والاردن, وفلسطين, ولبنان, وغيرها, وتلقى دعوات حارة لزيارة هذه الدول, أو قبول مساعدة.

لماذا هادن مبارك؟:

 كانت وجهة نظري التي قدمتها لخالد أن نقلب محاكمة أعضاء التنظيم كإرعابيين الى محاكمة سياسية لنظام مبارك, نعبىء لها الرأي العام العربي والقوى المناهضة لكامب ديفيد والتطبيع مع العدو.. إلخ.

اقترحت عليه إنشاء ((مكتب سياسي وإعلامي)) يعمل له, وبإشرافه يضم عدداً من الأصدقاء الصحافيين والمثقفين المصريين والعرب, مهمته متابعة تطورات القضية وتداعياتها محلياً ودولياً, وإصدار بيانات سياسية وتصريحات يومية حول كل تطور من تطوراتها, على أن تكون الغاية هي التصعيد بمواجهة النظام وإتهامه بالاذعان لإرادة اسرائيل والولايات المتحدة, والتفريط بالسيادة الوطنية, وتحميله مسؤولية ما وقع, لأنه رد فعل طبيعي على زيف السلام القائم بين مصر وإسرائيل, وآثار التطبيع الضارة على أمن مصر ومصالحها, وكرامة شعبها. واقترحتُ عليه توكيل محامين عرب وأجانب, للدفاع عنه وعن كافة المتهمين, وتصويرهم كأبطال غيورين على بلدهم دافعوا عنه بالسلاح لأنه لم يكن ثمة وسيلة أخرى بسبب غياب الديموقراطية, وذلك رداً على  تصويرهم إرعابيين ومجرمين, في الحملة التي شنها النظام في صحافته, وفي تصريحات وتقارير رجال أمن الدولة, وهو ما انعكس في مرافعات النيابة العامة التي صورتهم كمرضى نفسياً ومدمني مخدرات, يعانون من اضطرابات وعقد نفسية وعقلية, وباحثين عن المال والشهرة.

كما اقترحت على خالد إنشاء شبكة علاقات عربية, نوظفها لحشد التضامن الواسع معه, بغرض الضغط على النظام, واسرائيل لمنعهما من إدانة خالد أو الحكم عليه, أو مسه بأي أذى.

أما خالد فكانت وجهة نظره مختلفة تماماً, معي ومعنا. إذ رأى أن التصعيد سيستفز النظام, ويدفعه للانتقام من الموقوفين, وتشديد العقوبات عليهم, وربما يحكم عليهم بالإعدام. وكان خالد يرى أن إنقاذ المتهمين والموقوفين هو الهدف الأول في هذه المرحلة, وكان يستشير المحامين, ويستمع لآرائهم في هذا الصدد, ولا أستبعد أنه كان يتبادل الرسائل مع بعض شخصيات النظام, للتوصل معهم الى صفقة هدفها تخفيف العقوبات الى اقصى درجة ممكنة واستبعاد عقوبة الاعدام كلياًَ.

لهذا السبب رفض خالد خطة التصعيد, وخصوصاً إذا كان مرتبطاً بإسمه. ورفض بإصرار إطلاق أي تصريحات متشددة ضد النظام والتشكيك بوطنيته, وخصوصاً ضد مبارك شخصياً في هذه المرحلة. ورفض إعطاء مقابلات صحفية ليتجنب التطرق لهذه المسائل, لا سيما للصحافة العربية والأجنبية. وكانت المقابلة الوحيدة التي وافق عليها خلال ثلاث سنوات أجراها حمدين صباحي في أوائل عام 1988.

لذلك إتفقنا على حل وسط يقوم على شن حملة قاسية ضد نظام مبارك والدفاع عن رجال التنظيم, ولكن بأسمائنا وهوياتنا الشخصية, كصحافيين وناشطين مصريين وعرب. كما اتفقنا على تشكيل الشبكة العربية للدفاع عن خالد في العديد من الدول العربية والأوروبية. فاتصلنا مع العديد من الشخصيات العربية للمشاركة في الحملة, كالمحامي الاردني حسين مجلي, والدكتورة سعاد الصباح وجاسم القطامي وأحمد الخطيب من الكويت, ونجاح واكيم من لبنان, وتشكلت لجان في باريس وأثينا وفيينا وروما ولندن.

في الحلقة المقبلة:

عملية فدائية ناصرية في جنوبي لبنان.. أجهضت

 

الوسوم