بيروت | Clouds 28.7 c

متابعة غير مسبوقة لمسلسل ((ثورة الفلاحين))

حصد مسلسل ((ثورة الفلاحين)) (حوار كلوديا مرشليان، إخراج فيليب أسمر، إنتاج ((إيغل فيلمز)) لجمال سنّان) متابعة غير مسبوقة وحيزاً كبيراً من يوميات المشاهدين في لبنان، لما تميز به من ضخامة في الإنتاج، وإخراج جميل وحشد من الممثلين لهم جمهورهم العريض. تميّز المسلسل بجمال الديكورات وضخامتها وكمية إبهار كبيرة وصلت حد المبالغة. يسجل للمسلسل ولمنتجه هذه النقلة النوعية في كلفة الإنتاج في الدراما اللبنانية رغم أنّ ذلك محفوف بالمخاطر وبالتأكيد لن يرد كلفته. إلا أن المنتج غامرَ وربح الرهان وفرض على الجميع سقوفاً جديدة للإنتاج تحترم عقل المشاهد وذكاءه وتحترم قيمة الدراما اللبنانية، مع تسجيل أنّ ((مركز بيروت للإنتاج)) قد سبقه إلى ذلك حين تعاطى بسخاء في إنتاج مسلسل ((الغالبون 1-2)). بالعودة إلى ((ثورة الفلاحين))، لا بدّ من البدء بتشريح العمل عبر تناول عناصره التالية: النص، الإخراج، الموسيقى، الديكور والملابس، المونتاج والممثلون.

تميّزت مرشيليان بتسجيل الخيبة تلو الأخرى، وبظاهرة ترافق أغلب أعمالها تتلخص في ارتفاع سقف التوقعات حين الإعلان عن العمل وانخفاضها حين مشاهدته. وهذه لازمة لا أعلم من المسؤول عنها: هل هو الإعلان المبالغ فيه أو اللجوء إلى ذلك لضرورات التسويق؟ في ((ثورة الفلاحين))، وكما يُستدلّ من اسمه، يذهب تفكيرك إلى استحضار طانيوس شاهين وثورته. تعتقد بأنّ المسلسل سيتناول حقبة مهمّة من تاريخ لبنان. كيف يا ترى سيتناول المسلسل ملابسها، حواراتها، مفرداتها، ولهجتها؟ فإذا بالمسلسل لا علاقة له بطانيوس شاهين ولا بثورته ولا بعصره. هو فقط استعار منه الإسم. حتى إنّه لم يستعر منه بيئته أو أجواءه، فصار المسلسل عبارة عن حكايات الجدات عن ظلم البيك والإقطاعي. تمرّ الحلقات الطويلة من دون أن تندلع تلك الثورة وتنتظر، وتنتظر، وتنتظر... يُذبح الفلاحون، يُغتصبون، يُشنقون، يُنكل بهم ولا تندلع الثورة. متى ستندلع هذه الثورة إذن؟
ربما لن تندلع لأنّ الفلاحين قد أبيدوا عن بكرة أبيهم ولم يتبق منهم من سيقوم بهذه الثورة؟ أو ربما عدد الحلقات الكبير (60 حلقة) فرض هذه ((المطمطة)) لتقتصر أحداث المسلسل على قصص الحب المتطايرة من كل حدب وصوب، تسير ببطء وتتكرر مواقفها وحواراتها، واستعارتها أحياناً لمواقف وحوارات من أعمال أخرى كما في مشهد امتناع الفلاحين عن تلبية دعوة البيك (نقولا دانيال) للتحاور معهم. فهو مأخوذ بفكرته وحواره من مسرحية ((ناطورة المفاتيح)) للأخوين الرحباني، حتى إنّ الممثل نقولا دانيال حاول أن يقلّد أداء الكبير انطوان كرباج في المشهد. في كل الأحوال، لو لم يتلطّ النص وراء اسم ((ثورة الفلاحين))، لما كانت كل هذه المحاكمة له، وما كان يجب علينا تحميل الأمور أكثر مما تحتمل. وربما كنا اكتفينا بالتكهن بأنّ سنان طلب من كلوديا  مرشيليان قائلاً: فيكي تكتبيلنا مسلسل متل ((حريم السلطان))؟ فأجابته: طبعاً، وكان له ما أراد. (أقول ربما). في كل الأحوال، لو اكتفى المسلسل بعدد 30 حلقة فقط، كان ليكون أفضل من حيث الحبكة وتكثيف الأحداث. 

في ما يخصّ الإخراج، يكرّس فيليب أسمر نفسه يوماً بعد يوم مخرجاً من العيار الثقيل. جميل الصورة، أنيق الإضاءة، رشيق التقطيع. فيليب أسمر مخرج كبير من لبنان. أما الموسيقى، فكانت رائعة ومناسبة جداً لأجواء العمل. شكراً إياد الريماوي. وعند التوقف عند الديكور والملابس، لا بد من الثناء على عمل نصري طوق وعلى براعته وفنّه الراقي. لقد أبهرنا بجمال ديكوراته ومطابقتها للعصر الذي تدور فيه أحداث المسلسل. كانت ديكوراته ساحرة ومبهرة وواضح السخاء الإنتاجي عليها. إلا أنّه وقع في المبالغة، فـ((الزائد أخو الناقص)) كما نقول بالعامية. ((التعجيق)) الذي كان في الديكورات من حيث كمية الأكسسوارات، مبالغ فيه جداً. فكنا نبذل جهداً كبيراً لنكتشف وجود الممثل بين الثريات والشمعدانات واللوحات والشموع. فلا يعقل أن تحتوي غرفة في قصر، على كل هذه التحف والشمعدانات والأكسسوارات، لأنها في الحقيقة تحتاج إلى جيش من الخدم لنفض الغبار عنها. وهذا ليس منطقياً، إضافة إلى طغيانها على كل عناصر المشهد الأخرى ((الممثلين، الإضاءة، حركة الكاميرا..)) كأننا في محل لبيع ((الانتيكا)) لا في قصر.
أما الملابس فلها بحث آخر. أولاً، لا أعلم إذا كانت لوسي جرتيديان هي من قرر اعتماد هذه الأزياء أو أنّها نفّذت رغبة صناع العمل. في كل الأحوال، زادت الأزياء من غربة المسلسل عن بيئتنا، فاستحضرت أزياء أوروبا في القرن التاسع عشر وأصبحنا كمن يشاهد مسلسل ((الكونت دو مونتي كريستو))، وليس مسلسل ((ثورة الفلاحين)). وهذا الأمر يدعو للاستغراب. ومما زاده بلّة هو إجابة بطل المسلسل الممثل بإسم مغنية في معرض إجابته على هذا السؤال مع هشام حداد بأنّهم أرادوا أن يظهر المسلسل ((بأجمل صورة))، وبأنّ هناك مبرراً لذلك وهو أنّ العائلة ثرية وبإمكانها استيراد الملابس من لندن! ومرت الإجابة من دون أي تعليق أو استهجان.
ربما قد فات مصممة الأزياء أنّ لبنان في تلك الحقبة كان يشتهر بأزياء نسائه الجميلة، المصنوعة من الحرير الخالص ومن قماش الدمسكو وبالطرطور. وكانت أهم صادرات لبنان إلى العالم في حينها من الحرير المصنوع في قرى لبنان. لماذا هذا الفرق الكبير في الشكل بين ملابس البيك وملابس أبنائه؟ هل الثوار في ذلك الزمن كانت هكذا ملابسهم؟ أين ذهبتم بالشروال واللبادة؟ أو مثلاً كان ((نورس)) الثائر قد شاهد فيلم Pirates of the Caribbean وتأثّر بزي بطله فلبس مثله! ناهيك عن سوالف كارلوس عازار التي تتطابق تماماً مع الموضة التي كانت رائجة في أوروبا، ومستحيل أن تكون هي نفسها الرائجة في لبنان في ذلك الزمن، لما كان سيتطلب الأمر لتنفيذها نحاتاً لا حلاقاً. ملاحظة على الهامش: تمكّن ((فايز)) من المحافظة على شكل سوالفه كما هي أثناء فترة اختفائه وعيشه في الغابات، وفي بيت مهجور مشرداً (سبحان الله).
لو أن المسلسل أبرز لنا الأزياء اللبنانية في ذلك العصر، لكان ذلك شكّل إضافة جمالية على المسلسل، ولما كنا شعرنا بغربته عن بيئتنا وتاريخنا. لكن هذا لا يمنع من القول بأنّ الأزياء جميلة جداً وتدل على حرفية لوسي جرتيديان. إلا أنّ المونتاج كان العلّة الكبرى. فلا يجوز لمسلسل بهذه الضخامة أن تمرّ به أخطاء في المونتاج بهذه الطريقة غير الاحترافية. هل يعقل قطع الموسيقى بهذا الشكل بين مشهد وآخر؟هل يعقل استخدام الفايد ((إظلام)) للانتقال بين مشهد وآخر في مسلسل بهذه الضخامة؟ هل يعقل استخدام صورة القصر من الخارج المصنوعة بطريقة ((الغرافيكس)) ومن ((النوعية الرديئة)) للانتقال من مشهد إلى آخر؟ مثلاً: هل المشاهد لن يعرف أنه انتقل إلى القصر بعد مشهد يدور في الغابة، إلا إذا وضعنا له صورة القصر ((الغرافيكس))، إضافة إلى قطع الموسيقى بطريقة البتر في مشاهد كثيرة؟!

أخيراً، بخصوص الأداء، فقد أجاد كل الممثلين أدوارهم ويستحقون التهنئة، وهذا يثبت أنّ الممثل اللبناني لو توافرت له الظروف الصحيحة، سيبدع وسيقدم أجمل ما عنده. لكن لا بد من التوقف عند تميز أداء بعض الممثلين، أولهم باسم مغنية الذي خرج من رتابته المعهودة في الأداء، ويمكن القول إنّه وصل إلى السرّ الذي يجعل الممثل يتلبس الشخصية التي يؤديها وهذا السرّ هو الخروج من الذات. باسم أصبح في مسلسلي ((ثورة الفلاحين)) و((تانغو)) باسم جديداً. ممثل محترف، وأداء مشوق جبّ كل أدائه السابق الذي كان على طريقة ((شوفوني ما أحلاني))، وأصبح يستحق لقب النجم عن جدارة. أما جوهرة ((ثورة الفلاحين))، فهو الممثل القدير فادي ابراهيم بأدائه المخيف والمشوق، إضافة إلى أداء كارلوس عازار الجميل والصادق والمتزن، فيما أظهرت ورد الخال بما لا يقبل الشك أنّها وحشة الشاشة بقدراتها المتميزة وإحساسها الرائع. هي تكرست نجمة، صاحبة قدرات خارقة. كما يمكن التوقف عند أداء القديرتين وفاء طربية وهند طاهر، ونقولا دانيال وتقلا شمعون وختام اللحام وبراعة مارينال سركيس وفيفيان انطونيوس وسمارة نهرا. كلمة حق تقال، جميع الممثلين أجادوا أدوارهم وأثبتوا جدارتهم رغم بعض الملاحظات العابرة على بعضهم. في الخلاصة ((ثورة الفلاحين)) مسلسل إيجابياته أكثر من سلبياته، وهو بارقة أمل للدراما اللبنانية من ناحية رفع سقوف الإنتاج أو من ناحية النوعية.

الوسوم