بيروت | Clouds 28.7 c

أم على قلوب أقفالها..؟! ثورة الملائكة السوداء ! بقلم: محمد خليفة

وصف نزار قباني - رحمه الله - السودانيين بالعنب الأسود, أما أنا فوصفتهم بالملائكة السوداء!

زرت السودان مرتين, وكانت إحداهما زيارة طويلة شملت جوبا عاصمة الجنوب, وعدت منه في المرتين مسحوراً بطيبة أهله, ووداعتهم, ولا عنفيتهم الفطرية التي تناهز المثالية.

ولاحظت أنه رغم الفقر الشديد فإن الجريمة تكاد تنعدم, وأهله لا يعرفون جرائم ((السرقة والنشل والاحتيال والنصب)). وربما كانت الخرطوم العاصمة الوحيدة في العالم التي يخرج سكانها من بيوتهم  تاركين نوافذها مفتوحة وربما أبوابها أيضاً, ليقنعوك أن الجريمة ليست نتاج ظروف اقتصادية, بل نتاج ثقافة وحسب!

الثقافة أو العقيدة التي مزجت القبائل والأعراق المتعددة للسودانيين هي ((الصوفية)) وهي زادتهم سلمية ومثالية ولطفاً.

رغم هذه المزايا الفريدة يجد قارىء التاريخ السوداني الحديث أن شعبه الطيب المسالم يمتاز من ناحية أخرى بقوة ناعمة كامنة في روحه, وفي جسده الناحل قدرة خارقة على الثورة والمقاومة بأقل قدر من العنف.

 وهناك ثلاثة أمثلة واضحة جداً:

الأول: هو الثورة المهدية عام 1882 التي أسقطت الحكم التركي - المصري, وقتلت الجنرال الانكليزي غوردون, قائد الحامية العسكرية, وحررت السودان.

الثاني: ثورة 1965 أسقطت نظام الجنرال ابراهيم الاستبدادي العسكري, وأعادت الديموقراطية بلا سلاح ولا تخريب ولا عنف.

الثالث هو ثورة 1985 التي اسقطت نظام العقيد جعفر النميري العسكري الاستبدادي أيضاً, وأعادت الديموقراطية, بلا دماء.

شعب صوفي ومسالم وصبور, ولكنه كنهر النيل إذا فاض لا يرحم المحتلين والمستبدين, ويسقطهم بقوة ناعمة, هي قوة الارادة والنزول للشارع.

  بدأت الانتفاضة الحالية بشرارة بسيطة, تحولت في يومين حريقاً, امتد الى 22 مدينة كبيرة, على رأسها العاصمة المثلثة. وانضم اليها الطلاب والأطباء ثم أحزاب المعارضة. وتوحي المؤشرات أنها قابلة للتطور لتصبح ثورة رابعة تسقط حكم الجنرال الاخواني عمر البشير الذي يعد أطول العهود الديكتاتورية في السودان 1989 - 2018.

ما يحدث تطور منطقي وحتمي, فكل عوامل الثورة متوفرة, من الفقر والبطالة الى القمع والاستبداد. وبحسب منظمة العمل الدولية يقع السودان بين أسوأ المراتب في العالم من حيث معدلات البطالة التي بلغت 19.5% من أصل قوة عمل تبلغ11 مليون شخص.

 وأكد وزير الدولة في النظام خالد حسن في تقرير قدمه للبرلمان قبيل الثورة بأيام أن نسبة البطالة بين الشباب بلغت 33.8% وبين الخريجين 48% . ولفت إلى أن البطالة وسط الشابات بلغت هي الأخرى نحو 44.8%، ووصلت بين حملة الشهادات الجامعية إلى 25%.

هذا في بلد يمكن تصنيفه بين أغنى دول العالم وأكثرها تعدداً في الثروات, من الماء الى البترول, ومن الزراعة والحيوان الى المعادن, وقبلها جميعاً الثروة البشرية ووفرة الأطر والخريجين في جميع التخصصات العلمية.

ولا شك أن النظام يتحمل المسؤولية كاملة على تفشي الفقر وزيادة البطالة والفساد وسوء الادارة. فهو ورط البلاد في حروب داخلية سببت إنفصال الجنوب, ودفعت جهات أخرى للمطالبة به, بسبب غياب المساواة والعدالة والحرية والتنمية.

كانت مساحة السودان حوالى 2,5 مليون كم2 قبل انفصال الجنوب أما الآن فهو 1,886 مليون كم2 يمتاز بوفرة المياه, واتساع رقعة الأراضي المزروعة, ووفرة الثروة الحيوانية. وكان يسمى ((سلة غذاء العرب)) بفضل إمكاناته الهائلة, ولو استغل السودان ثرواته بطريقة علمية حديثة لأطعم العرب واوروبا وافريقيا مجتمعين, قياساً على معدلات الانتاج في دول صغيرة, كهولندا التي لا تزيد مساحتها عن 42000 كم2 فقط, أي بمساحة ولاية صغيرة من ولايات السودان, ولكنها تنتج محاصيل من الخضار والفاكهة والورود تصدرها الى كل اوروبا, وتصدر منتجات حيوانية الى عشرات دول العالم . ولذلك فحين يكابد السودانيون الفقر والجوع والبطالة, فلا بد أن تكون حكومتهم مقصرة الى حد الاجرام, ولا بد من محاسبتها واستبدالها. وحين تنسد سبل التغيير السلمي  والديموقراطي لا يبقى أمامه سوى النزول للشارع, لإسقاط النظام الذي أجرم بحق البلاد حين مزقها وضيعها, وأجرم بحق العباد حين أوصل البطالة بين الشباب والخريجين الى معدلات خرافية.

الانتفاضة بدأت سلمية ومطلبية, ولا دور للاحزاب فيها, حتى أن صادق المهدي قلل من شأنها, ووصفها بـ((بوخة دخان)) باللهجة المحلية, وتعني أنها فقاعة. وهو تعبير ينطوي على إهانة للشعب, ما كان يجب أن يصدر عن زعيم مخضرم كالمهدي, عاد الى الخرطوم قبيل اشتعال الانتفاضة بأيام قليلة, بعد سنوات طويلة من المنفى الاختياري, مما يدل على أنه منفصل تماماً عن الواقع الراهن في بلاده, ويشير الى أن جيلاً جدياً من السودانيين يتحرك اليوم لتصحيح الأوضاع وإعادة مواجهة الحكام الحاليين, بدون وصاية, أو انتظار لقيادة تقليدية, تميزت بالرجعية طوال تاريخها, وربما كانت عودته نتيجة صفقة مع البشير.

المؤشرات توحي بأن الانتفاضة مستمرة تتوسع وتتجذر وتزداد قوة, وأخذت تجتذب القوى السياسية المعارضة, وخصوصاً اليسارية, لأن النظام العسكري القائم مثّل على مدى ثلاثين عاماً اليمين الاسلامي, وتحالف مع أقصى اليمين الاجتماعي والسياسي الذي يطرح شعارات الليبرالية المطلقة.

أطياف ثورة 1985 وثورة 1965 تلوح في الأفق, وتبشر بتغيير ديموقراطي بأقل كلفة دموية, إذا لم يكرر البشير خطيئة الجنوح للبطش والاستعانة بالجيش والسلاح, لقمع الحراك المدني السلمي وإخماد صوت الجماهير. خصوصاً أن البشير زار دمشق الاسبوع الماضي, والتقى بسفاحها الذي يجسد النموذج الأشد توحشاً على مستوى العالم في هذا العصر, ويخشى أن يستلهم تجربته الدموية والهمجية.    

           

 

 

الوسوم