بيروت | Clouds 28.7 c

الحياء خصلة حميدة / بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: ((ولو أنهم ءامنوا واتَّقَوا لمثُوبةٌ من عند الله خيرٌ لو كانوا يعلمون)) سورة البقرة.

وعن أبي مسعود البدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناسُ من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) رواه البخاري.

ليُعلم أن الحياء خُلُقٌ عظيم يمنع صاحبه من اقتراف الموبقات ويحمله على فعل الخيرات، فمن كان من أولادنا وناشئتنا ذا حياءٍ فينبغي أن يُستعان بحيائه على تقويمه وتأديبه ليكون بإذن الله على خيرٍ ورشاد، ولينشأ عاقلاً رزينًا راغبًا بالفضيلة معرضًا عن الرذيلة والفُحش إذ الحياء يحمل صاحبه على الخير. ولذلك قيل في تعريف الحياء: ((هو خُلُقٌ يحمل على ترك القبيح وفعلِ المليح)).

 وقال الحافظ ابن حجرٍ في ((الفتح)) قال الراغب: ((الحياء انقباض النفس عن القبيح وهو من خصائص الإنسان ليرتدع عن ارتكاب كل ما يشتهي فلا يكون كالبهيمة)).

ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن مما أدرك الناس)) أي بلغهم وأحاطوا به، وقوله ((من كلام النبوة الأولى)) أي من كلام أصحابها وهم الأنبياء الأولون السالفون الذين سبقت بعثتهم بعثة نبينا محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام، والمراد بيان أن أمر الحياء لم يزل ثابتًا وممدوحًا منذ زمان النبوة الأولى، ويُستفاد منه أنه ما من نبيٍ إلا وقد دعا إلى الحياء وذلك لما تضمنه هذا الخُلقُ العظيم من صلاحٍ وأن الحياء لم يُنسخ فيما نُسخ من شرائع المرسلين، بل قد تداوله الناس بينهم وتوارثوه قرنًا بعد قرنٍ إلى أن أدركناه في شريعتنا ودعانا إليه نبينا عليه الصلاة والسلام، وبالتالي فقد عُلم صوابه وفضله واتفقت العقول المستقيمة على حُسنه.

إذا لم تستح فاصنع ما شئت

 وقوله عليه الصلاة والسلام ((إذا لم تستح فاصنع ما شئت)) فيه أقوال. فقد قال مفسرون: معناه الإخبار أي إذا لم يكن لك حياءٌ يمنعك من القبيح صنعتَ ما شئت، وذلك لأن ترك الحياء يجرُّ إلى الانهماك في الفحشاء والمنكر، وحقيقة الأمر أن من لم يستحِ صنع ما شاء.

وقال مفسرون: إنما تضمن الحديث معنى التهديد والوعيد أي: إذا نُزع منك الحياء وكنت لا تستحي من الله ولا تُراقبه باستحضار الخوف منه تعالى في قلبك فاصنع ما تهواه نفسك من الرذائل فإن الله يعاقبك على ذلك، وهو كقوله تعالى في سورة فُصِّلت ((اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير)) قال الماتريدي في ((تأويلات أهل السنة)): ((الآية على الوعيد)). وكقوله تعالى أيضًا في سورة الكهف ((فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)) قال القرطبي في تفسيره: ((وليس هذا بترخيص وتخيير بين الإيمان والكفر، وإنما هو وعيد وتهديد، أي إن كفرتم فقد أعدّ لكم النار، وإن آمنتم فلكم الجنة)).

وعلى هذا فالحديث متضمنٌ معنى التهديد لمن نَزع عن نفسه خُلُق الحياء فلم يبق له رادعٌ يحجُزه عن الشر.

وإذا ما عُلم هذا استفدنا من هذه التفاسير تعظيم أمر الحياء وما يتأتى بالحياء من خيرٍ فعن عمران بن حصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء خيرٌ كله)) أو قال ((الحياء كله خير)) رواه مسلم. وفي ((الأدب المفرد)) للبخاري عن عمران أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الحياء لا يأتي إلا بخير)).

الحياء من الله

فمن استحيا من الله تعالى حذِر الوقوع فيما حرَّم الله، وإذا ما كان الإنسان يستحي أحيانًا من ارتكاب رذيلة ما إذا أحسَّ بعين إنسان مثله تراه وهو لا يملك أن يُدخله جنةً ولا نارًا، أو يُسدي له آخر معروفًا فيستحي من التعرض له بعد ذلك بما يزعجه ويؤذيه فبالأولى أن يستحي من رب العالمين الذي خَلَقه ورَزَقه وأمره ونهاه والذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وقد روى البيهقي في ((السنن الكبرى)) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ((الله أحقُّ أن يُستحى منه)). وإذا ما تمكَّن الحياء من الله في قلب المؤمن تراه بعد ذلك يترك ما نهى الله عنه ويسمو بنفسه مترفعًا عن كل شينٍ وعيبٍ، فيكون نِعمَ العابد الخاشع فيجعل الهموم همًا واحدًا هو همُّ السلامة في الآخرة وإلى هذا المعنى أشار نبينا صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الذي رواه مسلم من طريق عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وقد سُئِل عن الإحسان ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).

فكن على ذُكرٍ أن الله يراك وأن الله مُطَّلع عليك وعالم ٌبك وقادرٌ عليك ولكن الله حليمٌ لا يستفزه عصيان العُصاة، قال الله تعالى: ((وإن الله لعليمٌ حليم)) سورة الحج. فحريٌ بك أن تستحي من رب العالمين الذي خلقك فسوّاك وأنعم عليك بما لا يدخل تحت حصرك من النِعم كما دلَّ على ذلك قوله تعالى في سورة النحل: ((وإن تعُدوا نعمةَ الله لا تُحصوها)).

ويتأكد هذا المعنى أيضًا فيما رواه الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((استحيوا من الله حق الحياء)) قال: قلنا يا رسول الله إنَّا نستحي والحمد لله. قال: ((ليس ذاك ولكن الاستحياء من الله حق الحياء أن تحفظ الرأس وما وَعى والبطن وما حوى وَلْتَذكر الموت والبلَى ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء)).

فالحياء من الله حق الحياء إذًا هو حفظ نفسك عمّا حرم الله بحفظ الرأس وما حواه من الأدوات كالعين والأذن واللسان، وتحفظ بطنك فلا تدخل إلى جوفك ما حرَّم الله، وتحفظ كذلك سائر جوارحك من نحو اليد والرجل والفرج من الإثم ولا تستعمل كل ذلك إلا فيما أذن فيه الشرع فقد قال الله تعالى: ((ولا تَقْفُ ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا)) سورة الإسراء.

الحياء نوعان

وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم مرَّ على رجلٍ من الأنصار كان يُعاتب شخصاً في الحياء ويحثه على ترك بعض ما هو عليه من الحياء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعه فإن الحياء من الإيمان)). ومعنى ((دعه)) أي اتركه على هذا الخُلق الطيب. وفي سنن الترمذي وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحياء من الإيمان والإيمانُ في الجنة والبَذَاءُ من الجَفَاء والجَفاءُ في النار)). والجَفَاء هو غِلظُ الطبع والبَذَاء هو الفُحش في القول كشتم المؤمنين وقذف العفيفات بالفاحشة مثلاً.

وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم أشَجَّ عبد القيس فقال له: ((إن فيك لخُلُقين يُحبُهما الله. قال الأشج: وما هما. قال: الحِلم والحياء)) رواه البخاري في ((الأدب المفرد)).

وإذا ما عُلم هذا وبان لك فضل الحياء فليُعلم أن هذا كله في غير الحياء الذي يجر إلى ترك واجبٍ أو فعل محرّمٍ.

وخلاصة الكلام أن الحياء الذي مدحه نبينا عليه الصلاة والسلام هو الحياء الذي يُبعدُ صاحبه عن الرذائل ومنكرات الأخلاق، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من تعلُّم ما يحتاجه من أمور الدين كالمرأة التي تستحي من تعلُّم أحكام الحيض والنفاس وغير ذلك، وكالرجل الذي يستحي أن يسأل عن أحكام الجَنابة أو غير ذلك مما يحتاجه من أمور الدين فإن هذا الحياء يحمل صاحبه على التعبُّد على الجهل والتعبدُ على الجهل لا ينجي صاحبه يوم القيامة. وقد مدحت السيدة عائشة رضي الله عنها نساء الأنصار فقالت: ((نِعْمَ النساءُ نساءُ الأنصار لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين)) رواه البخاري. وعن مجاهدٍ قال: ((لا يتعلَّم العلمَ اثنان مُستَح ولا مستكبر)) رواه البخاري.

فلا ينبغي للمرء إذًا أن يترك ما أوجبه الله عليه بدافع الحياء، فقد عُرف كثيرٌ من الأعلام بالحياء ولم يمنعهم الحياء من بلوغ المراتب العالية كأمير المؤمنين عثمان بن عفَّان ثالث الصحابة في الفضل بل قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ((ألا أستحي من رجلٍ تستحي منه الملائكة)) رواه مسلم. وقد كان سيد السادات رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمَ الناس حياءً فقد روى مسلم عن أبي سعيدٍ الخُدْري قال:((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء في خِدْرها وكان إذا كرِه شيئًا عرفناه في وجهه)) أي لا يتكلم لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم عليه، والعذراء البِكرُ، والخِدرُ سترٌ يُجعل للبكر في جنب البيت.

فطوبى لمن زانه الحياء وهذَّبه الخجل فكفَّ عن القبائح وأتى المحاسن فأرضى ربه ونال رضاه ورحمته، والحمد لله أولاً وآخراً.   

الوسوم