بيروت | Clouds 28.7 c

معاني الصّوم ومراميه / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 13 نيسان 2021

 

الحياة معلقة بالغذاء، فإذا انقطع الغذاء ونفق المخزون منه في الجسد مات وفني؛ والمولود منذ لحظة خروجه من بطن أمه وقطع الحبل السري عنه يبدأ بالبحث عن مصدر غذاء بديل، وحتى في آخر لحظة حياته لا ينفكّ الإنسان يبحث عن شيء يتغذّى به.

والحياة النباتية أيضاً لا تشذّ عن هذه القاعدة، فالبذرة لا تنمو في الأرض اليابسة، وهي تحت التراب تبحث وبشتى الأساليب عن ماء أو أثر منه ليهب لها ما يمدّها بعناصر الغذاء فتعيش وتنمو وتُثمر.

والله سبحانه أمّن لكل حيّ مادة تغذّيه وتضمن له استمرار الحياة، حيث المواد الضرورية للحياة موجودة كلها في الأرض، لكن كل حي يتغذى منها بما يتطلب نوع حياته ويأخذ منها ما يقضي حاجته.

إن الإنسان هو من الكائنات التي تتغذى من الماء والثمار واللحوم معاً، حيث البعض من الحيوانات تتغذى بما تحتوي مياه البحار والأنهار من مواد رقيقة منتشرة فيها، ومنها ما تقتات من أوراق الأشجار وثمارها، والبعض الآخر لا تقضي حاجتها إلاّ بما تقتنصه من لحوم من هنا وهناك، فيما جسم الإنسان قد أعدّه الله جلّ جلاله ليستفيد من مختلف عناصر التغذية في سبيل أن يستمر في حياته إلى أن يأتي أجله ويلقى حتفه.

لكن هذا الموجود الذي خلقه الله بيده وأسجد له عامة ملائكته، وجعل المتردد في إطاعة أمره رجيماً ملعوناً إلى يوم يُبعثون، أراد لهذا المخلوق الذي كرّمه وعلّمه ما عجز عن دركه الملائكة المقربون أن يكون خارجاً من أسر العبودية ومتحرراً من أغلال الإسارة، وعتيقاً من ربق الأنانية، وأراده أن يُنيله شرف اختصاصه لذي العرش دون سواه، ومطيعاً مطلقاً لمن خلقه وانعم عليه بما حجبه عن أقرب المقربين إلى كرسي ملكه، والذي كان ربه قد هيّأ له حياة رغيدة خالدة مع زوجته في جنة يأكل فيها من الثمرات ما يشاء ويتناول ما يشتهي من دون عناء، ( إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى )؛ لكن غفلة لحظة، ووسوسة نفس، وطمعاً في مزيد، جعلته خارج النعيم المقيم، وأهبطته إلى الأرض ليعاني فيها العناء والشقاء ويعضّه الجوع ويفتك يه المرض، وصار من واجبه هو تامين الغذاء لنفسه والحراثة في الأرض ليستخرج من باطنها ما يتقوّت منه ويُديم حياته به، وكذلك الإمساك بحيوانات وقتلها كي ياكل من لحومها ويمتصّ بدنه ما تحتويه من عناصر القوة الكامنة فيها فتكون عامل لدوام حياته.

وأراد الله سبحانه لهذا المخلوق الفريد ذي المنزلة الرفيعة أن يكون هو سيد نفسه فلا حاجة جسدية تتحكم فيه، ولا رغبة غريزية تتغلب عليه، ولا هوى نفس تسيطر على كيانه، ففرض عليه الصيام أياماً معدودات.

ولذلك نجد أن فرض الصيام كان منذ بداية خلق الإنسان وليس مختصاً بالإسلام وفي الأديان السماوية وحدها، بدليل قوله تعالى: ( كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم )، ليؤكد الله ميزة هذا المُكوَّن الذي نفخ فيه من روحه على سائر الكائنات ذوي الروح الحيوانية؛ إذ انها لا تصبر على الجوع وإذا شبعت لا تطمع، ولا تحتمل الظماء إذا عطشت وهي لا تريد من الماء مزيداً، وإذا هاجت بها الغريزة في فصل التلاقح لا يمكنها الصبر والإنتظار، وإذا قضت حاجتها أو انقضت المدة لا تعبأ بعدها بالأمر أبداً، وهنا أمر الإنسانََ ربُّه أن يمرّن نفسه على رفض الغذاء اللذيذ رغم جوعه الشديد وحاجة بدنه إليه، ويعوّدها على الإمتناع عن شرب الماء المعين رغم تعطشه إليه، ويصدّها عن إرضاء الشهوة في ذروة هياجها، ويُربّيها على مخالفة الهوى عند اشتداد رغبتها، وذلك لكي يجسد هذا الإنسان إرادته القوية في السيطرة على غرائزه الحيوانية كلها والتحكم بإرادته في شهواته على أنواعها، والتي لا يوجد في غير الصيام وسيلة لتجسيد تميّزه على باقي الحيوانات.

ثم إن جسد الإنسان قد اعتاد على نمط معين من التغذية، وصار الجهاز الهضمي لديه قد تعوّد على حشو المواد في داخله ودفع الزوائد خارجاً وضمن نسق اعتيادي، لكن الصوم لمدة شهر كامل يجعل الجهاز الهضمي هذا يواجه نمطاً جديداً من التغذية فيضطر إلى إعادة برمجة نظامه وتنشيط نفسه على أساس نسق جديد، وهذا يعطي لعموم الجسد حيوية متجددة.

ثم إن النفس البشرية تحنّ دوماً إلى الحيوانية بمعنى أنها تدفع صاحبها إلى حب الذات واستغلال غيره من بني جنسه، ونتش لحم غيره من أبناء جلدته ليؤمّن رفاه ذاته، وخلاصة الأمر أنه موجود أناني يحاول نيل مراده بأي ثمن؛ لكنه من خلال الصيام وما يتبعه من التزكية للنفس والإيثار على الذات وإطعام الفقراء وفعل الخير طوال شهر رمضان يصقل النفس من الأنانية ويزكّيها من هوى النفس، ويذكّرها بأصول إنسانية ربما غفل عنها في الشهور الماضية، وقيم أخلاقية لم يُعِرها أهمية طوال الأيام الخالية، فيكون الصوم فرصة لتنشيط الصفات الحسنة، ومناسبة لتفعيل السجايا الفاضلة وتوكيد الأخلاق النبيلة.

ثم إن المؤمن لمّا يقرر الصوم قربة إلى الله تعالى فإنه إضافة إلى ما أسلفنا من فوائد ومزايا يبتغي من ذلك مرضاة ربه، وهو إذن كلما رغب في طعام في هذا الشهر تذكر إخواناً له في الدين لا يملكون ما يسدّون به جوعهم فيجود عليهم ببعض ما وسّع الله عليه فيُشبع بطونهم الخاوية قربة إلى الله تعالى، فيكون بعمله هذا قد أسلف البارئ جلّ وعزّ عملاً صالحاً تنفيذاً لأمره فيكون له حق على الله سوف يؤديه له يوم يصدح النداء في أرض المحشر: ( لمن الملك اليوم لله الواحد القهار )، وإذا أحسّ بالعطش الشديد فإنه يشعر حتماً بما يعانيه الفقراء والمساكين نتيجة عدم قدرتهم على تحصيل مياه نقية صالحة للشرب وسارع إلى إطفاء ظمأ العطاشى من المؤمنين تقرباً إلى الله عز وجل، فعمله الصالح هذا سيجزيه الله عليه يوم العطش الأكبر من حوض الكوثر، وإذا بادر إلى قضاء حاجة محتاج أو رفع الهمّ عن كاهل مهموم أو إغاثة ملهوف قربة إلى رب العالمين فإن الله سبحانه سيُثيبه على عمله الجميل هذا يوم ( يقوم الناس كالفراش المبثوث ) ويوم ( تحدّث الأرض أخبارها ) ويوم يرى الناس أعمالهم ( فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يَرَه ومن يعمل مثقال ذرّة شرّاً يره ).

وفي هذا القسم من معاني الصوم يجب نيّة التقرب إلى الله سبحانه والطاعة الخالصة لأمره حتى يستحق الصائم الأجر منه، ويشمله وعد الله للصائمين بقوله: " الصوم لي وأنا أجزي به ".

نسأل الله التوفيق للصائمين والقبول من الراكعين الساجدين، وندعو إلى التزود من بركات هذا الشهر الفضيل، وخاصة في ليالي القدر التي هي ( خير من ألف شهر )، عسى أن يعود إلينا ما تركنا من خصال حميدة، ونلتزم من جديد بالسجايا الحسنة، ونتّصف بالأخلاق النبيلة، بعد أن فارقناها من زمن وتحكمت بنا الأهواء وأسرتنا الأنانيات، فأصبحنا كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام: " كالبهيمة المربوطة همّها علفها أو المُرسَلة شغلها تقمّمها ".

السيد صادق الموسوي

الوسوم