بيروت | Clouds 28.7 c

بين الواقع والتجني... حقيقة الأمير قراقوش / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 25 آذار 2021

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يآ أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدا} سورة الأحزاب.

يتسرَّع بعض الناس في تصديق كثيرٍ مما يُلقى ولا يتثبَّتون مما سمعوا ويُطلقون التُّهم بالتوهم فربما أساؤوا الظن برجل صالحٍ ونسبوا إليه ما هو بريء منه، وربما حطُّوا من شأن رفيعٍ أو رفعوا من شأن وضيعٍ بناء على التَّخمين وتصديق أخبارٍ لفَّقها سُفهاء الناس وهذا خطرٌ كبيرٌ يأبى اللبيب أن يقع فيه، وكم افتُري قديمًا على أناسٍ فراجت تلك الأكاذيب والتصقت بمن نُسبت إليه إفكًا وهو في الحقيقة من أبعد الناس عنها.

ولذلك فمن الغلط أن يتسرَّع الشخص في إطلاق الأباطيل على الناس بدون تثبُّتٍ فربما صدَّق ذلك البعض فنشرها فصدَّقها الآخرون ثم تناقلتها الأجيال بعد الأجيال فيصعب بعد ذلك إقناع هؤلاء بحقائق الأمور، ومن أمثلة ذلك ما ينسُبه كثيرٌ من الناس من الفساد للأمير الكبير بهاء الدين قراقوش حتى صار كثيرٌ من الناس يضربون به المثل في الظلم أو الحماقة بغير حق إذ لم يكن هذا الرجل كما يُفترى عليه، بل عمل بعضهم على تشويه سيرته لضغينةٍ في نفسه عليه كما سيظهر من التالي.

من هو قراقوش

يشهد واقع الأمر كما هو مسطورٌ في كتب التاريخ لهذا الرجل بخلاف ما ينسبه إليه كثير من الناس اليوم وها نحن نذكر طرفًا من سيرته فنقول: هو أبو سعيد بهاء الدين قراقوش بن عبد الله الأسدي والأسدي نسبة ولاء لعم السلطان صلاح الدين الأيوبي أسد الدين شيركوه إذ كان قراقوش من أمراء أسد الدين وأصبح له دورٌ بارز في مجريات الأمور بعد موت أسد الدين وصار من ضُبَّاط الناصر صلاح الدين الأيوبي. قال ابن خلِّكان في "وفيَّات الأعيان": "وقَرَاقُوش لفظٌ تركي تفسيره بالعربي العُقاب الطائر المعروف". وقد وصفه ابن الأثير الجزري في "الكامل في التاريخ" بقوله: "كان من أعيان الأمراء الأسدية". وقال فيه سبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان": "من أكابر الأمراء". ووصفه ابن شدَّاد في "النوادر السلطانية" بقوله: "الأمير الكبير بهاء الدين قراقُوش وكان رجلًا عاقلًا"، وفيه: "وكان ملتزمًا بحراسة عكَّا وكان شجاعًا عظيمًا له وقعَاتٌ كثيرة". وفي "الأعلام" للزركلي أن "قراقوش نشأ في خدمة السلطان صلاح الدين الأيوبي وناب عنه في الديار المصرية (أي أقامه صلاح الدين مقامه مدةً) وكان هُمامًا مولعًا بالعمران وهو الذي بنى السور المحيط بالقاهرة وبنى قلعة الجبل وبنى القناطر التي بالجيزة على طريق الأهرام، ولما أخذ السلطان صلاح الدين عكا من الفرنج ولَّاه عليها ثم عادوا واستولوا عليها (بعد مقاومة باسلة دامت ثمانية عشر شهرا) وأسروه فافتكّه السلطانُ صلاح الدين بعشرة آلاف دينار وفرح به فرحًا عظيمًا". وبنحو ما قال الزركلي قال السيوطي في "تاريخ الخلفاء" وسبط ابن الجوزي في "مرآة الزمان". وجاء في "موجز دائرة المعارف" إعداد وتحرير جماعةٍ من الباحثين: "ويلقى قراقوش كل الثناء من المؤرخين المعاصرين له مثل عماد الدين الكاتب الأصفهاني وكذلك المؤرخين المتأخرين أمثال المقريزي وابن تغري برْدِي، ويصفونه بأنه كان من أقدر الناس في زمانه على إدارة شؤون الدولة وكان محل تقدير كل هؤلاء المؤرخين بفضل جهوده البنَّاءة (وهذا دليلٌ على براءته مما يُنسب إليه من الأحكام الجائرة فإن أعرف الناس بالقائد أو العالم أهلُ عصره وقد شهدوا له بالخير) وبعد وفاة السلطان صلاح الدين صار ولاؤه للملك العزيز عثمان بن صلاح الدين وجعله السلطان عثمان نائبًا عنه عند غيابه عن مصر، وحين أحس السلطان عثمان بدنو أجله جعل قراقوش وصيًّا على ابنه الملك المنصور ثم بعد موت السلطان عثمان التزم الملك المنصور وصية أبيه ورفع من شأن قراقوش ما أثار الضغائن في نفس بعض مبغضيه وهو الأسعد بن مماتي فوضع كتابًا سمَّاه "الفاشوش في أخبار قراقوش" حشاه بما لا يصح في حق الأمير قراقوش". وقد اعترض على ما في هذا الكتاب ابنُ تغري برْدِي فقال في "النجوم الزاهرة": "وفيه أشياء يبعد وقوع مثلها منه، والظاهر أنها موضوعةٌ (مكذوبة) فإن صلاح الدين كان يعتمد في أحوال المملكة عليه ولولا وثوقه بمعرفته وكفايته ما فوَّضها إليه". وقال ابن خلِّكان في "وفيَّات الأعيان": "والناس ينسبون إليه أحكامًا عجيبة في ولايته والظاهر أنها موضوعة" (أي مكذوبة) واستدل على ذلك أيضًا بوثوق السلطان صلاح الدين به.

 ويرى الدكتور عبد اللطيف حمزة الذي حقق كتاب "الفاشوش" في أربعينيات القرن العشرين "أنه بالرغم من إنجازات قراقوش الكبيرة وبلائه الطويل في خدمة الدولة الأيوبية وتحصين القاهرة وحفظ أمنها واستقرارها في غياب الناصر صلاح الدين فإن بعض الثغرات جعلت من حكايات خصمه ابن مماتي تروج بهذا الشكل".

قلتُ: ولا يخفى ما يلقاه أصحاب السلطة وحسن تدبير أمور الحكم من حسدٍ وسعيٍ من بعض الناس للحطِّ من شأنهم لمآرب خبيثةٍ، ومهما كان أحدُنا على درجةٍ عالية من جودة الرأي ونفاذ البصيرة فغالبًا ما يُخطئ في بعض الشؤون لا سيما عند كثرة الفتن وتكالب الأعداء واضطراب البلاد كما كان الزمن الذي عاش فيه الأمير قراقوش وكثيرًا ما يُلقي الرَّعاع اللوم على الأمير مطلقًا لأنهم لا دراية لهم بما يدور حوله من فتن إلا أنهم يرونه في موقع المسؤولية فقط، وبالتالي يسهل أن تروج الإشاعات المغرضة في حقه وهذا ما اقتنصه الأسعد بن مماتي للقدح في شخصية الأمير قراقوش رحمه الله.

وقد ابتُلي قراقوش بمن افترى عليه وأشاع عنه ما لا يصح وقد سبق له من حُسن البلاء ما سبق ولكنه لم يزل معظَّمًا عند من عرف حُسن سيرته حتى وافاه الأجل في مستهل شهر رجب سنة سبعٍ وتسعين وخمسمائةٍ للهجرة ودفن في تربته المعروفة به بسفح جبل المقطَّم في القاهرة.

فإذا عُلم هذا فالحذر الحذر من إطلاق التُّهم على الناس قبل التَّثبت فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفى بالمرء كذبًا أن يُحدِّث بكل ما سمع" رواه مسلم.ومعناه أن الإنسان يسمع الحق والباطل والصدق والكذب فإن حدَّث بكل ما سمع من غير تثبُّتٍ كذَب لنقله الكذب، والحكيم لا يصدق كل ما يسمع فالحذر الحذر، ومن منَّ اللهُ عليه بعينيه فلا ينظرنَّ بأذنيه.

والحمد لله أولًا وآخرا.  

 

الوسوم