بيروت | Clouds 28.7 c

فى زيارتهما التاريخية بدعوة من « الأهرام» مطلع 1967.. سارتر وسيمون دى بوفوار يتلقيان هدايا  "كمشيش" - بقلم يسرا الشرقاوى / جريدة الأهرام المصرية

 الفيلسوف الفرنسي: " أرى مظاهر نجاح الثّورة المصرية"

مجلة الشراع 26 شباط 2021

صدرت صحيفة «الأهرام» بتاريخ 25 فبراير 1967 وقد تصدر صفحتها الأولى عنوان:

"خطاب مفتوح يوجهه سارتر يوم وصوله للمثقفين العرب"

العنوان وموضوعه أكدا أن اليوم ذاته سيشهد وصول الكاتب المسرحى والناقد الأدبى والفيلسوف الوجودى جان بول سارتر ( 1905- 1980)، متقدما وفدا يتألف من الكاتبة والناشطة النسوية الأشهر سيمون دى بوفوار(1908- 1986)، وكلود لانسمان، مدير تحرير مجلة «العصور الحديثة» الباريسية والتى يصدرها سارتر، فى زيارة تاريخية إلى مصر.

الزيارة دامت 16 يوما وكانت بدعوة من الكاتب الكبير توفيق الحكيم، ممثلا لمجلة «الطليعة»، أحد إصدارات مؤسسة «الأهرام» وقتها. وكانت «الأهرام» قد سبق ونشرت ما كان حول انتدابها الكاتب الكبير توفيق الحكيم، بوصفه عضوا فى مجلس إدارة «الأهرام»، ليكون مرافقا للوفد الزائر رفيع المستوى. وأن يشارك الحكيم فى مصاحبة الزائرين عدد من كبار كتاب الصحيفة، هم: الدكتور حسين فوزى، والدكتور لويس عوض، والأستاذ لطفى الخولى الذى كان يرأس تحرير مجلة «الطليعة» صاحبة الدعوة.

 

ولكن قبل الوصول، جاءت رسالة سارتر المنشورة بـ«الأهرام» والمذيلة بتوقيع الكاتب والفيلسوف الفرنسى، لتقول : «أيها الأصدقاء الأعزاء، إننى لسعيد بالدعوة التى وجهها «الأهرام» لى والتى ستتيح لى فرصة الالتقاء بكم. ان علاقات الأخوة تربط بينى وبين أصدقاء عرب منذ أمد بعيد، ولاسيما منذ حرب الاستقلال الجزائرية. ولكن لم تتح لى الفرصة بكل أسف لأن ألمس بنفسى الواقع الحى فى بلادكم، وأن أناقش الرجال الذين يعبرون عن ثقافتكم. ويسعدنى اليوم والعالم العربى منخرط فى صراع من أجل الوحدة والتقدم ويمر بأزمة تعكس- فى نفس الوقت- إرادة التنمية والتحرر ومدى مقاومة القوى الرجعية والإمبريالية..أقول سوف يسعدنى أن أسمع منكم كيف ترون دلالات نضالكم فى هذا الصراع الذى تخوضونه. إن ثمة طرقا كثيرة تؤدى إلى الاشتراكية. ولا شك ان تجربتكم المبكرة يمكن ان تفيد كثيرا، لا سيما بالنسبة لمن يقدم من الغرب. وفيما يخصنى أود أن أؤكد أننى لم أفصل يوما بين الاشتراكية وبين وصول الناس إلى الحرية. وكل ما أرجو أن أسمعه منكم هو الطريقة التى تربطون بها بين هاتين الفكرتين. ويخيل إلى أن مواجهة حول هذا الموضوع يمكن أن تكون أساسا لمناقشات مجدية. وأنا أعلم من ناحية أخرى، مدى اهتمامكم بالحركات الثورية المختلفة، ومدى إدراككم للدور العالمى لثورتكم. وإننى أعتقد انه لن يكون مضيعة للوقت لو تدارسنا معا كيف يمكن التوفيق بين الخصوصية والعالمية. وفى انتظار السرور بالحديث معكم، أبعث اليكم بتحياتى الأخوية».

سارتر يشيد بالجزار ووانلى

وعند وصول سارتر وصحبته، كان فى استقباله مجموعة كتاب «الأهرام» المعنيين بمرافقته، يتقدمهم رئيس التحرير وقتها، محمد حسنين هيكل. وبدأت الزيارة التى جاءت موثقة عبر صفحات «الأهرام» يوما بيوم. زار سارتر وصحبته المعالم الرئيسية لمصر، ما بين المتحف المصرى ومتحف الفن الإسلامى والمتحف القبطى، وما بين المواقع الأثرية والثقافية المختلفة مثل الأهرامات، والكنيسة المعلقة، والمعهد العالى للفنون المسرحية بمدينة الفنون بالهرم، ومنزل رمسيس ويصا.

ولكن فى جولة سارتر وصحبته، محطات لافتة، منها زيارته إلى قاعة متحفية خاصة أعدها الفنان عبدالقادر رزق، مدير إدارة الفنون الجميلة وقتها، فى أيام معدودة، لتضمن لوحات 60 من كبار فنانى مصر. وحول زيارته لذلك المتحف الذى أعد على عجل، أورد الكاتب والفنان الكبير يوسف فرانسيس ما كان من «وقوف سارتر طويلا أمام لوحة الجزار عن السد العالى وراحت يده تتجول مع حركة العمل المتشابكة فى التروس التى تربط الشكل الإنسانى بالعنصر الآلى وتتابع إيقاع البناء الفنى. أما لوحة ( غزو الفضاء ) لسيف وانلى فقد استرعت نظر الفيلسوف الكبير وهو يتابع فى اهتمام الشكل الدائرى فى المساحة التجريدية الكبيرة». كما قام الزوار بجولة فى أحياء مصر القديمة، ووصف سارتر تجربته فى «قهوة الفيشاوى» بأنها الأكثر متعة فى حياته.

وكان لسارتر وصحبته اهتمام واضح باستكشاف المجتمع المصرى بعيدا عن «المركز» القاهرى، فطلبوا مد أمد زيارتهم إلى الوجه القبلى، كما كان لهم فى قرية

«كمشيش» بمحافظة المنوفية، زيارة خاصة، التقيا فيها فلاحى القرية التى خاضت معركة عنيفة ضد «الإقطاع» عام 1966، مخلفة وفاة أحد مناضليها صلاح الدين حسين. ينقل الكاتب وحيد النقاش فى «الأهرام» ما كان من استقبال شعبى ضخم للزوار، تخلله تقديم فلاحى «كمشيش» جلباب ريفى وطاقية من الصوف كهدايا إلى سارتر، وعقد مزركش إلى سيمون. ورد سارتر على مستقبليه قائلا: «إننى سعيد أن أكون بينكم الان، حيث أرى مظاهر نجاح الثورة المصرية وتقدمها. وإننى لأؤكد لكم أن الفلاحين هم حماة الثورة، ولسوف تكونون أنتم حماة لثورتكم. وتبعته دى بوفوار لتقول: ( إننى أشارك سارتر فى تقديم التحية إليكم، وإننى لفخورة بأن أرى المرأة هنا فى كمشيش تقوم بدورها الطليعى والثوري)».

خلال لقاء «كمشيش» أجاب سارتر وسيمون على أسئلة أهلها حول مختلف القضايا، فردا على استفسار حول حال الفلاحة الفرنسية، بأن أجابت دى بوفوار، موضحة بأنها تواجه معوقات: «لأن التقاليد تعطى الأفضلية للرجال وتجعلهم فى مستوى أعلى من المرأة». ورد سارتر على سؤال حول حل المشكلة الزراعية فى البلاد النامية: «أستطيع أن أقول إننى رأيت كيف أن كل قطرة من النيل تستغل فى زراعة الأرض، وكيف تقوم المراكز التعاونية الزراعية فى بلادكم، إلا أننى أتمنى أن تتمكنوا من معالجة مشكلة تزايد السكان، فهى أخطر المشاكل التى تواجهكم».

... ويمتدح السد العالى

وكانت المحطة الأبرز لسارتر، الذى التقى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر وزار مقر الحزب الاشتراكى، إلقاءه محاضرة حول «دور المثقف فى المجتمع المعاصر» فى جامعة القاهرة أمام حضور من 4 آلاف شخص. يومها وصف سارتر المثقف بأنه: «الإنسان الذى يسعى لحل الصراع القائم فى داخله بين تربيته وعمله»، موضحا أن هناك مثقفا يتبع حزبا ومثقفا من خارج الحزب، وأن التبادل بينهما يخلق الدور الحقيقى والفعال للمثقف. وامتدح الفيلسوف الفرنسى الكبير ما شاهده من تجربة بناء السد العالى خلال زيارته إلى أسوان، مؤكدا: «ان العمال يفيضون بشرا وثقة وفرحا بعملهم». ولكن من أهم ما جاء فى محاضرة سارتر التاريخية، والتى قدم لها الأديب ووزير الثقافة وقتها ثروت عكاشة، كان إشارة الفيلسوف الفرنسى إلى مشاركته فى «محاكمة راسل» التى نصبها افتراضيا الفيلسوف الإنجليزى برتراند راسل لمناقشة الانتهاكات الإنسانية التى تمت خلال سنوات حرب ڤيتنام. يومها قال سارتر فى مديح تلك التجربة: «إن المثقفين فى محكمة راسل مجردون من السلطة إذن هم من هؤلاء الذين خارج الأحزاب فلم يدعهم أحد ولم يكلفهم أحد بشيء وهذه ميزة لأنه إذا كانت الحكومة أو مجموعة من الحكومات قد كلفتهم بهذا ففى هذه اللحظة تستطيع الحكومات لمصلحتها السياسية أن تتدخل. وعندئذ قد يعارض الأمريكيون أى حكم يفرض عليهم. وهذا معناه أن مثل هذه المحكمة يجب ان يتفق عليها سائر الدول.. إننا لسنا فى هذه المحكمة إلا قوما نريد أن نجد حلا للجميع».

الزيارة التاريخية، والتى سيكون هناك فرص لاستعراض تفاصيل محطاتها فى أعداد لاحقة، انتهت بتأكيد سارتر فى تصريحات ما قبل المغادرة:

 "ما رأيته هنا يخالف تماما الصورة التى رسمها الاستعمار لمصر منذ عام 1956"

الوسوم