بيروت | Clouds 28.7 c

كورونا بين البلاء والموعظة / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 25 شباط  2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يآ أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىءٌ عظيم يوم ترونها تذهل كل مُرضعةٍ عمَّا أرضعت وتضع كلُّ ذات حملٍ حملها وترى الناس سُكارى وما هم بسُكارى ولكنَّ عذاب الله شديد} سورة الحج.

نُدرك تمامًا أن الله تعالى أقوى من كل قويٍ وأعلمُ من كل عالم وهو نافذُ المشيئة فلا رادَّ لما قضى اللهُ ولا مانعَ لما أعطى ولا مُعطي لما منع، وقد نصب اللهُ تعالى الأدلة على وحدانيته وقدرته فيعتبر المؤمنُ بتلك الأدلة ويزداد بتلك الحُجج إيمانًا ويُعرض الجاحدُ عن تلك الآيات كأنه لا يرى ولا يسمع. ثم إن الكلام في استعراض البراهين على عظمة الله الواحد الأحد واسعٌ جدًا، وما زالت الأيام والليالي تأتي بعبرٍ كُبرى وأحداثٍ شتَّى تتعلَّق تارةً بأحوال المناخ وتقلُّبات الفُصول وتارةً بالناس وأحوالهم وأبدانهم تُستخلص منها الدُّروس والحكم ويشهد لسان حالها بصدق ما نقول. وها نحن اليوم وقد تجاوزنا عتبة القرن الواحد والعشرين نشهد عبرةً عظيمةً من خلال حالةٍ عامَّةٍ أقلقت الدنيا وأرعبت الشُّعوب وضعضعت الدُّول وما ذاك إلا بسبب مرضٍ بات ينتشر انتشارًا عريضًا اسمه "كورونا"، ونرى ما يعتري كثيرًا من الناس على اختلاف طبقاتهم من الوجلِ والهلَع، وما هو حاصل من تباينات في مجال الطِّب بعض الأحيان حول تشخيص هذا المرض وكيفية إصابة الشخص به وما هو العلاج الناجع الذي يقي من الإصابة به أو يُساعد من أصيب به على الشفاء منه.

 

 

هلَّا اعتبرنا

ومع كل هذا فلم يقل أهل الطبِّ إلى الآن كلامًا فصلًا في هذا الشأن، فمرةً نسمع أن من أُصيب به لا يُصاب به مرةً أخرى إلا بعد مُضي كذا وكذا من الشهور ومرةً نسمع من ينقض هذه المقُولة ومرةً يبلُغُنا أن فلانًا أُصيب فتدهورت صحته جدًا وأن فلانًا أُصيب فمات وأن فلانًا عمل الفحوصات فتبيَّن أنه مُصاب بينما لا يشكو من أي أعراضٍ مرضية، وتارةً يُشجِّعُنا بعضهم على تعاطي اللقاح ضد هذا المرض ومرةً يُخوِّفنا البعض من ذلك، والناس بين ٍخائفٍ يُكثر من العمل بأسباب الوقاية حتى بلغ الحال ببعضهم تحت هذا العنوان إلى مقاطعة الأهل والإخوان وقطع الأرحام، وبين غير مبالٍ يرى أن بعض الجهات تُعطي الحدث أكثر من الواقع وأن هذا المرض مجرَّد زُكام يُمكن علاجه ببعض العقاقير الخفيفة أو بعض الأعشاب المنزلية، ورأينا دولًا تُعرف بالكبرى تعيش حالةً من الارتباك تتعلق بالطبابة والاستشفاء وتوفير الأدوية بل ونوع الأدوية وتأمين المال المطلوب، بل صار يظهر عجز بعض الدول عن الاستمرار في التصدي لأزمة كورونا وباتت هذه الأزمة تُسهمُ في انتفاض الناس وكشف هشاشة بعض الأنظمة بل وسُقوطها، وصرنا نسمع من يقول: "النظام الدَّولي ما بعد كورونا سيكون مختلفًا". وفي وطننا لبنان ما يُثري مقالنا بالأمثلة إن أردنا الاسترسال في ذلك، وما زالت الإصابات تجتاح النفوسَ والخوفُ يقطع الجوفَ وعديد الموتى يتراوح ارتفاعًا وانخفاضًا يومًا بعد يوم. ثمة دولةٌ تُصدر قرارًا بإقفال البلاد وحجر الناس في المنازل وثانيةٌ تُغلق المطارات فلا وافد ولا خارج وأخرى تدفن موتاها في حُفر سحيقةٍ في الأرض خوفًا من مُقاربة المتوفَّى، وأصبح شغل الناس الشاغل وحديث الساعة متابعة آخر أخبار كورونا وعدد المصابين وأرقام الوفيات كأنهم أسرى في غُرفٍ ضيقةٍ لا أنيس لهم إلا شاشات التلفزة وحال كثيرٍ من الناس كما قال القائل:

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها                  فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

فهم محبوسون في البيوت لا كالأحياء الأصحاء الذين ينعمُون بالصِّحة والأمن ولا موتى قد انقطع الرجاء من حياتهم، فلا سهراتٍ ولا حفلاتٍ بل ربما وصل الأمر ببعضهم إلى أن يعيش أفراد الأسرة الواحدة كلٌّ في غرفةٍ خاليًا بنفسه فلا مجالس أسرية ولا لقاء بين الأحباب ولا طعام على مائدةٍ واحدة ولكلٍ آنية طعام وشراب خاصة بل وحمَّام خاص ومناديل خاصة، والخطاب من وراء الكمَّامات أو الأبواب أو عبر وسائل التواصل فحسب، وصرنا لا نرى عند كثير من الناس تلك اللهفة لشقيق قدم من الغُربة أو لأبٍ كان يحرص أن لا يُصيب ولده في الصِّغر شوكة أو لأمٍ طالما أماطت الأذى عن بدن ابنها وثيابه أو لصديق ضيَّق على نفسه يومًا ليكشف الكرب عن صديقه، فأبٌ يتوارى من ابنه وأخٌ يهرب من أخيه وأمٌ تبخل بحنانها وكلُّ ذلك خوفًا من كورونا، وجميع هذا من دلائل قدرة الله وعظمته فهلّا اعتبرنا بتقلُّب القلوب وتغيُّر الأحوال، وإذا ما صرنا نعهد فرار الأقارب بعضهم من بعض في الدنيا فكيف الأمر يوم القيامة الذي قال الله تعالى فيه:{يوم يفرُّ المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه} سورة عبس.

إلى كل مؤمن

وإزاء ذلك كله نقول: جديرٌ بكل عاقلٍ أن ينظر في كل تلك الأحداث ومجريات الأمور نظرةً ثاقبة تتعدى مجرَّد رؤية هذا البلاء مجرَّد مرضٍ كسائر الأمراض يموت فيه فلانٌ ويتعافى منه فلان، ولتكن نظرة الواحد منا أبعد من ذلك جدًا، فإذا ما كان هذا العارض الذي لا يُرى بالعين قد ألحق بأهل الدنيا كل هذا الكم مما ذكرنا فما بالكم إذًا بيوم يبعث اللهُ فيه من في القبور ويجمع الأولين والآخرين في موقفٍ لا ريب فيه ويُقضى بين الناس فريقٌ إلى الجنة وفريقٌ إلى السعير، وهو يومٌ تظهرُ فيه أهوالٌ عظيمة لم يظهر قبلها ولا يظهر بعدها مثلها ويكفي في بيان شدة ذلك اليوم ما دلَّت عليه الآيتان أول المقال.

إن العمل بأسباب الوقاية من المرض لا يتعارض مع الدين ولا يُنافي التوكُّلَ على الله أبدًا، وقد تداوى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحثَّ أمته على التداوي فلا بأس بتعاطي أسباب السلامة، ولكن من كان يهتم لأسباب السلامة في الدنيا فأولى به أن يهتم لأسباب السلامة في الآخرة فأيام الدنيا وإن طالت قصيرة، وربنا تعالى يقول:{قل لن ينفعكم الفِرار إن فررتم من الموت أو القتل وإذًا لا تُمتَّعون إلا قليلا} سورة الأحزاب. فمن كان يحتاط للسلامة في دنيا قليلة فأجدر به أن يحتاط للسلامة في دار لا فناء لها والناس فيها بين فائزٍ في نعيمٍ مقيم وبين هالكٍ في عذابٍ أليم، فلو اجتهد الناس في طاعة الله قدر نصف اجتهادهم في السلامة من كورونا لكانوا بخيرٍ عظيم.

والحمد لله أولًا وآخرا.        

الوسوم