بيروت | Clouds 28.7 c

مخالطة الناس والصبر على الأذى / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 18 شباط 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {إن الله لا يظلم الناس شيئًا ولكنَّ النَّاس أنفسهم يظلمون} سورة يونس.

وعن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المؤمن الذي يُخالط الناسَ ويصبرُ على أذاهم خيرٌ من الذي لا يُخالط الناس ولا يصبرُ على أذاهم" رواه البخاري في "الأدب المفرد".

ما زال الحريصون على إرشاد الناس لحملهم على الاستقامة شفقةً عليهم قديمًا وحديثًا يُخالطون الناس فيكونون بينهم ما استطاعوا، إن رأوا شرًا حذَّروهم منه وفي قلوبهم حزنٌ وألمٌ على من أصابه هذا الشر فيُوجِّهونه إلى كيفية الوقاية منه غير شامتين ولا فرحين بما أصابه، وإن رأوا خيرًا حثُّوهم عليه وفرحوا لهم به. وجديرٌ بمن رزقه الله مالًا ومتاعًا أن يُغيث الملهوفَ ويعين المحتاجَ لا سيما في أيام الشدة كما هو واقع حالنا اليوم، ولكن أجدر بمن رزقه الله علمًا وحكمةً أن ينشر ما آتاه الله من ذلك بين الناس فإن حاجة المجتمع إلى ذلك شديدة جدًا بل هي أشد من حاجة الناس إلى الطعام والشراب كما لا يخفى على كل من مارس عمل الدعوة إلى الله تعالى بصدق. ولكن المشكلة في كثيرٍ من الجاهلين أنهم يجهلون أنهم جاهلون وكثيرًا كذلك ما يحمل الهوى والانتصار للنفس الشخص على المخالفة للحق وربما علم المخالف أحيانًا أن الحق إلى جانب الخصم ولكنَّ الهوى يُعمي ويُصم، ومهما جهد المرء لإرضاء الناس ومحاولة كسب ودّهم والعمل على توحيد الصُّفوف وجمع كلمتهم على الحق واستنقاذ من أمكن استنقاذه من مستنقعات الرَّدى وتنوير بصائرهم وحملهم على الجادَّة الصحيحة فلن يسلم من أذى الأشرار الذين لا يرون إلا رأيهم ولا يقبلون إلا طريقتهم الفاسدة، ومن المؤسف أنهم يظنون أنفسهم على الهدى والاستقامة وإنما هم في طريق جهنم وهم لا يشعرون.

 

 

 

إيَّاك ورأي فرعون

وقد قال تعالى إخبارًا عن الطَّاغية فرعون: {قال فِرعون ما أُريِكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرَّشاد} سورة غافر. وكذب فرعون فيما ادَّعى فإنه دعا قومه إلى عبادته من دون الله وقد قال تعالى:{وما أمر فرعون برشيد} سورة هود.

وكم من الناس اليوم يُشبهون فرعونَ فيعتقدون أنهم إنما يوردونَ أتباعهم سبيل الرَّشاد وإنما يوردُونهم في الحقيقة سبيل الهلاك ويصدُّونهم عن النور إلى الظلمات من حيث يعلمون أو لا يعلمون، وهيهات بمن لا يعرف سبيل الرشاد كيف سيدلُّ غيره عليه ولذلك فإن المسؤولية الملقاة على عاتق الدُّعاة الصادقين كبيرة جدًا ولا يسع الصَّادق إلا الصبر والثبات وإخلاص العمل لله، فإن في مخالطة الناس بهدف كشف الشُبهات التي يُلقيها أهل الباطل وتبيين الحقائق الإيمانية من نحو تنزيه الله عن مماثلة المخلوقين وتبرئة الأنبياء مما يُنسب إليهم مما لا يليق بهم وتعليمهم ما يحتاجون إليه من أمور دينهم وإعانتهم ونُصحهم ثوابٌ جزيل جدًا. وبالتالي فإن المؤمن الذي يُخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ وأفضل من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم لأن العامل في هذا الشأن لن يسلم عادةً من سهام ألسنة بعض الناس المسمومة. فمن قهر نفسه على الصمود في سبيل الدعوة إلى ما يُرضي الله كان أجره على الله والله لا يُضيعُ أجر المحسنين، ولذلك فإن العاقل لا سيما في هذا الزمان الذي كثُر فيه المنكر واستشرى الفساد وعمَّ الشر وزادت البلايا والخطوب لا يختار الانطواء على نفسه في زوايا بيته بل يخرج للناس فيكون بينهم يعلِّم جاهلَهم ويرشد التائهين ويهدي من ضلَّ منهم، فكم وكم من الناس من لا يعرفون الخالق؟ وقد بلغنا عن بعضهم أنه كان يظن أن الله بين مكة والمدينة، وبعضهم كان يعتقد أن الله منتشرٌ كالهواء في كل الأمكنة، وبعضهم اعتقد أن الله ضوء ملأ السموات والأرض، وزعم بعضهم أن الله ساكن السماء، إلى غير ذلك من مفاسد وأباطيل تجري على الألسنة وتستقر في القلوب. فإن لم يقم أهل العلم والكفاءة بدورهم المنوط بهم فلمن يتركون أفراد أمة محمد صلى الله عليه وسلم؟! ومن المؤسف أن نسمع من بعضهم ذمًّا واعتراضًا على من يُعلِّم الناس العقيدة والأحكام ويوضح لهم أن الله لا يُشبه شيئًا ولا يشبهه شىءٌ ويُبيِّن لهم أحكام الطهارة والصلاة فيقول أحدهم: "لا تُعقِّدوا الناسَ اتركوا الناس على فطرتهم"، وهذا من أجهل الجهل، ومثل قائل هذا كمثل فرعون إذ زعم أنه يهدي قومه سبيل الرَّشاد.

لن تسلم من النَّاس

إن علم الدين ليس تعقيدًا وليس في ترك الجاهلين على ما هم عليه شىءٌ من السداد، ولكن مثل هذه الانتقادات الفاسدة من بعض السفهاء من جملة البلاء الذي ينال الصَّادقين في العمل على إخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومن أتعبه ما يناله من سفهاء الناس فليرجع إلى قول الله تعالى في سورة الأحزاب:{لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنة} ولينظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فيرى أن خير الخلق لم يسلم من الناس، فلقد جاء نبينا محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى ما فيه الخير والفلاح وجمع الأمة على الحق والدين لتكُون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السُّفلى، فاتَّهموه تارةً بالسحر وتارةً بالجنون وتارةً بالكهانة وراموا قتلَه وقتلَ أصحابه فحاربوه في بدرٍ وفي أحدٍ وفي مواقع أخرى، ويطول الكلام في ذكر ما كان من كيدهم وأذاهم فلم ييأس النبي صلى الله عليه وسلم ولم يملَّ وكان في كل أفعاله وأقواله معلِّمًا للأمة ومن سيرته العظيمة صلى الله عليه وسلم نستفيد أن إرضاء الناس غاية لا تُدرك مهما كان المرء مستقيمًا ولذلك قيل:

وما أحدٌ من الناس سالمٌ                    ولو أنه ذاك النبي المقرَّبُ

فمن أيقن بهذه الحقيقة وهي أظهر من أن يشك فيها عاقل وكان ممن أنعم الله عليهم بالخير فليبُثَّ هذا الخير بين الناس بمخالطتهم وليتجمَّل بالصبر عليهم عملًا بالحديث أعلاه.  

والحمد لله أولًا وآخرا.

 

الوسوم