بيروت | Clouds 28.7 c

حِلمُ أمير / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 21 كانون الثاني 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون} سورة الشُورى.

لا شك أن الحِلم من أجلِّ الصفات وأحمدِها إذ يحمل الحِلمُ صاحبَه على التَّرقي في مراتب الخير وإن من خير خصال الإنسان أن يكون بطيء الغضب سريع الرضا وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على صحابي يقال له الأشج فقال له: "إن فيك خَصْلَتين يُحبُّهما اللهُ الحِلم والأناة" رواه مسلم عن ابن عبَّاس.

قال أبو حيَّان في "البحر المحيط": "لا يغُول الغضبُ أحلامَهم كما يَغُول حُلومَ الناس".

وفي "لسان العرب" لابن منظور: يقال: "غاله يغُوله واغتاله أذهبه وأهلكه". وفيه أيضًا:"والغُول كل شىءٍ ذهب بالعقل"وفيه  كذلك: "وقالوا الغضب غُول الحِلم أي أنه يهلكه ويغتاله ويذهب به". والأحلام والحُلُوم العقول، والمعنى: لا يُذهب الغضبُ عقولَهم فيخرجهم عن حدِّ الحكمة، إنما يضبطون أنفسهم فلا يُنفِذُون غضبهم ولا يجرهم الغضبُ إلى ما لا تُحمد عقباه كما هو حال أغلب الناس.

والحليم هو الذي لا يستفزُّه الغضب، أي يتَعقَّل فيتصرَّف بحكمة عند وجود دواعي الغضب ولا يحمله الغيظ على السفاهة، ومعنى "الأناة" التُّؤدة وذلك بأن يتروَّى في معالجة الأمور ليبقى ضمن نطاق الحكمة ولا يتسرع فيخطئ ويندم بعد ذلك، ولربما ظنَّ البعض أن الحِلم ضعفٌ أو جُبنٌ وما ذاك إلا من وساوس الشيطان بغية أن يُزين للمرء سوء عمله فيصُدَّه عن سبيل الحق. وقد اشتُهر كثيرٌ من الأعلام قديمًا بالحلم ومن أبرزهم أبو الوليد معن بن زائدة الشيباني من أمراء العباسيين، ولَّاه الخليفة أبو جعفرٍ المنصور اليمن وغيرها وعُرف بمكارم الأخلاق لا سيما الحلم وذاعت بذلك أخباره فحفظها المؤرخون في بطون الكتب.

حِلمُ معن

وفي "نوادر الخلفاء" للإتليدي وغيره أن معن بن زائدة كان لا يُغيظ أحدًا ولا أحد يغيظه فقال بعض الشعراء: أنا أغيظه لكم ولو كان قلبه من حجر. فاتفقوا معه على مائة بعيرٍ يأخذها إن أغاظه، فعمد الرجل إلى جَمَلٍ فذبحه وسلخه ولبس جلده كالثوب وجعل اللحم من خارجٍ والشعر من داخل، ولبس برجله أيضًا نعلين من جلد الجَمَل وجعل اللحم من الخارج والشعر من ناحية رجليه، وجعل الذباب يقع عليه ويقوم وأتى حتى جلس بين يدي معنٍ على هذه الصورة المنفِّرة ومدَّ رجليه في وجهه وقال:

أنا والله لا أُبدي سلامًا                               على معن المسمِّى بالأمير

معناه لن أسلم عليك سلام الإمارة أي لن أقول لك: السلام عليك أيها الأمير. فقال معنٌ: السلام لله أي ينبغي أن يُراد به مرضاة الله إن سلَّمت رددنا عليك وإن لم تُسلِّم ما عَتبنَا عليك.

فقال الرجل:

ولا آتي بلادًا أنت فيها                              ولو حُزت الشآم مع الثغور

وأرحل من بلادك ألفَ شهرٍ                         أجدُّ السير في أعلى القُفُور

معناه لن أقيم في بلادٍ تكون أنت فيها ولو ملكت الشامَ وثُغورَ الشام والثُغورُ أطراف البلاد حيث يُتوقع أن يأتي من ناحيتها الغزاة، والمراد لو ملكت الشام بأسرها وخصَّ الشامَ لوفرة خيرها وأهمية ملكها، وسأرحل من حيث أنت ولو مسيرة ألف شهر وأتحمَّل السير في القِفار. فقال معنٌ: البلاد بلاد الله إن نزلت فمرحبًا بك وإن رحلت كان الله في عونك.

 فقال الرجل:

أتذكر إذ لحافك جلد شاةٍ                         وإذ نعلاك من جلد البعير

 فقال معنٌ: أذكر ذلك ولا أنكره.

فقال الرجل:

 ونومك في الشتاء بلا رداءٍ                       وأكلك دائمًا خبز الشعير

فقال معنٌ: الحمد لله على كل حال.

فقال الرجل:

وفي يمناك عكازٌ قويٌ                             تذُود به الكلاب عن الهرير

"تذود" تدفع "والهرير" صوت نباح الكلب، والمعنى: تدفع بالعصا الكلاب عن نفسك كي لا تنبح عليك، فقال معنٌ: ما خفي خبرها، معناه: أمرها مشهور لم يخف ولست أنكره.

فقال الرجل:

فسبحان الذي أعطاك ملكًا                     وعلَّمك الجلوس على السرير

فقال معنٌ: بفضل الله لا بفضلك.

فقال الرجل:         

أميرٌ يأكل الفالوذ سرًا                           ويَقري الضيف من خبز الشعير

"الفالوذ" هو الفالوذج وهو نوع من الحلوى فاخر لم يكن مثله إلا عند الملوك أو الأثرياء غالبًا، فقال معنٌ: لا نُطعم ضيفنا إلا مما نأكل.

فقال الرجل:

فجُد لي يا ابن ناقصةٍ بشىءٍ                   فإني قد عزمت على المسير

وفي هذا البيت بالغَ الرجل في القدح به حيث تطاول على أهله وسمَّاه ابن ناقصةٍ فعكس اسمه.

فأمر له معنٌ بألف دينار فقال الرجل:

قليلٌ ما أمرت به وإني                         لأطمع منك بالمال الكثير

فأمر له بألفٍ أخرى فقال الرجل:

فثلِّث إذ أتاك الملك عفوًا                      بلا عقلٍ ولا جاهٍ خطير

والمعنى أتاك الملك بغير همةٍ منك لأنه ليس لك عقلٌ جيدٌ ولا جاه عظيم، وقوله: فثلِّث أي أعطني مرةً ثالثةً فأمر له معنٌ بثلاثمائة دينارٍ أخرى فقال الرجل:

ولا أدبٍ كسبت به المعالي                    ولا خُلقٍ ولا رأي منير

فأمر له معنٌ بأربعمائة دينار.

فتعجب الرجل عند ذلك من حلمه وراح يمدحه فقال:

سألتُ اللهَ أن يُبقيك ذخرًا                      فما لك في البرية من نظير

فمنك الجود والإفضال حقًا                    وفيض يديك كالبحر الغزير

وذكر لمعنٍ ما كان من خبره فأمر له زيادةً على ما كان أعطاه من المال بمائتي ناقة مائة لنفسه ومائة للذين اتفق معهم على أن يُغضبه.

فانظر أيها القارئُ أي مبلغ بلغ الحلم بهذا الأمير وكيف ما زال يكظم غيظه مع ما له من السطوة رغم كل ما أساء به ذاك المخاطب له، ونرى اليوم كثيرًا من الناس لا يتحمَّلون هفوةً من إخوانهم ربما خرجت من بعضهم بغير قصدٍ، وأغلب هؤلاء إنما يصبُّون جام بطشهم على البُسطاء والفقراء بينما يتذللون لأهل الدنيا ويحلمُون لهم وما هم بالحلماء في الحقيقة، وجديرٌ بمن رزقه الله المناصب الرفيعة أن يتجمَّل بالحلم ليسكن القلوب قبل القصور.

 والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم