بيروت | Clouds 28.7 c

السلطان المفلس : سياسة اردوغان الخارجية ( 2 من 3 ) كيف تحولت تركيا الى أكبر تهديد خارجي لأوروبا ؟! بقلم محمد خليفة

مجلة الشـراع 14 كانون الثاني 2021
كانت العلاقات التركية مع اوروبا الغربية تحتل المرتبة الأولى في علاقاتها الدولية طوال القرن العشرين ومنذ تاسيس الجمهورية 1923، وتميزت دائما بالعمق والاتساع ، ذلك أن " العقيدة الكمالية " التي سادت وما زالت تحكم تركيا رسميا ، إنما جعلت من تبعية تركيا الى أوروبا مبدأ عقائديا ، جرى تطبيقه كولاء وانتماء اديولوجي ، وثقافي ، واستراتيجي ، على حساب أواصرها الطبيعية والتاريخية مع الشرق الاسلامي . 
على الرغم من ذلك لم تمنع العلاقات القوية من ظهور خلافات بين تركيا وأوروبا في العقود الماضية ، على قضايا تتعلق غالبا بملفات تتعلق بالديمقراطية وحقوق الانسان ، خصوصا في عهود الحكم العسكري ، وبسبب النزاعات الحدودية بين تركيا – وكل من قبرص واليونان ، بيد أن علاقات التعاون العميقة لم تتأثر كثيرا ، لا سيما أن تركيا لعبت دورا حساسا في حماية الأمن الأوروبي بمواجهة التهديد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة . وبالمقابل حصلت تركيا على معونات ومزايا اقتصادية ضخمة من أوروبا وأميركا ، واعفاءات جمركية ، وتعتبر صناعتها مدينة للصناعة الأوروبية ، وعلى الأخص الالمانية التي ترتبط بعلاقات تعاون وتحالف بدأت منذ القرن الثامن عشر ، وتطورت باستمرار .
ولعل أقوى الأدلة على متانة التحالف التركي – الاوروبي أن الاجتياح التركي لجزيرة قبرص عام 1974 رغم ردود الفعل العنيفة التي اثارها لم يضعف التحالف الاستراتيجي بين الجانبين الاوروبي والتركي . وكذلك التوترات المتكررة مع اليونان وقبرص اللتين تحظيان بمكانة خاصة في الوعي الأوروبي منذ آلاف السنين -  وكذلك الأمر بالنسبة لانقلابات تركيا العسكرية ، وقمعها المتواصل للأكراد ، وتهجير المسيحيين من تركيا .. إلخ .
إذن،

احتفظ الجانبان التركي والأوروبي على الدوام بعلاقات تعاون وتضامن استراتيجية طوال قرن كامل ، وتغلبا دائما على مصادر الخلاف والتوتر ، إذ غلَّب كلاهما المصالح الكبيرة على التناقضات الأدنى أهمية حتى نهاية القرن العشرين . 
أما سياسات أردوغان  في السنوات السبع الأخيرة،

فقد أصابت تلك العلاقات إصابات بليغة للمرة الأولى ، وصلت في الأيام الأخيرة درجة فرض عقوبات أوروبية على تركيا ، فضلا عن تبادل القيادة التركية التهديد والوعيد مع دول عديدة كألمانيا وفرنسا وهولندا والنمسا ، ناهيك عن اليونان وقبرص ، مما أوصل علاقات الطرفين حافة القطيعة ، بسبب رزمة نزاعات وملفات خلافية ، عسكرية وسياسية ودينية يتحمل أردوغان شخصيا القسط الأكبر من المسؤولية عنها .
بدأت هذه الخلافات بالتحرشات التركية بقبرص، والتنقيب عن النفط والغاز في مياهها الاقليمية ، ثم تفاقمت بسبب توتير الأجواء مع اليونان بشكل متصاعد ، وابتزاز اوروبا بفتح الحدود أمام أمواج اللاجئين القادمين من سورية ، ومن آسيا للعبور الى اوروبا ، بما فيهم ارهابيو القاعدة وداعش ، وبقية المقاتلين المتطرفين العائدين من القتال في سورية والعراق الى أوروبا حاملين معهم ثقافة التطرف الداعشية . وكذا نقل تركيا الأسلحة والمسلحين الى شمال افريقيا ، وخاصة ليبيا ، ودول افريقية ، الأمر الذي يعتبره الاوروبيون عامل تهديد لأمنهم ، وخصوصا الواقعين على ضفة المتوسط الشمالية .
هذه الخلافات والنزاعات نقلت تركيا من مرتبة الحليف الاستراتيجي الى مرتبة (التهديد الأكبر) لأوروبا حسب وزير الدولة البريطاني السابق للشؤون الاوروبية دنيس ماكشين في مقال نشره في الاندبندنت ( 22سبتمبر 2020 ) وجاء فيه ( إن تركيا باتت أكبر تهديد لأمن الاتحاد الأوروبي بين القوى الأجنبية ، ويشمل التهديد القيم التي تحاول أوروبا اظهارها ) . 
أما الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا أولاند،

فعدد لائحة طويلة من الاتهامات للقيادة التركية ، تبدأ بقرع طبول القومية ، سعي لاستعادة الأمجاد العثمانية، ولا تنتهي بتهديداته للجزر اليونانية ، وعسكرة شرقي المتوسط . ووصف سياسة أردوغان في ليبيا بالعدوان ، وفي سورية بالمغامرات .  
أسلمة العلاقات مع أوروبا :
مع أن الأردوغانية كاديولوجيا وسياسة ليست اسلامية أكثر مما هي قومية ، بل العكس، فإن البعد الديني طغى على البعد القومي في الأعوام الأخيرة ، إذ أقحم الرئيس التركي العناصر الدينية في خطابه ، ووظفها في سياساته الخارجية والداخلية ، متعمدا إثارة مخاوف اوروبا وهواجسها ، واستفزازها بتذكيرها بحروب أجداده العثمانيين ، وذكر النمساويين بمحاصرة فيينا . ويعتبر إعادة صرح آيا صوفيا البيزنطي – العثماني مسجدا للصلاة والعبادة مثالا صارخا لاستغلال الرموز الدينية في السياسة بطريقة استعراضية وشعبوية ، تحركها رغبة أردوغان باستعادة الشارع الذي انحسر عنه لأسباب اقتصادية وسياسية ، سيما في استانبول كما أظهرت الانتخابات البلدية التي جرت عام 2018 ، حيث هزم مرشح المعارضة إمام أوغلو مرشح حزب العدالة بن علي يلدريم مرتين . 
والواقع أن أردوغان القومي لم يكتف بتسييس الدين ، واستغلاله لأغراضه الانتخابية في الداخل ، بل عمل على توريط الجاليات التركية في الدول الأوروبية ، وسعى لتحريضها وتعبئتها خدمة لسياسته ومواقفه تجاه أوروبا ، وخصوماته مع قادة الدول ، التي راينا بعض فصولها الشهور في مواجهته مع نظيره الفرنسي ايمانويل ماكرون . 
والمعروف أن الجاليات التركية المهاجرة في اوروبا ، كانت على مدى الحقب الماضية لا تخلط الدين بالسياسية ، واتسم سلوكها دوما بالتزامها بقوانين دولها التي تعيش فيها وتحمل جنسياتها ، وعزز ذلك الطابع الصوفي للاسلام التركي السني المعتدل تاريخيا .

وكانت حكومات أنقرا قبل حزب العدالة والتنمية تنتدب روتينيا أئمة مدربين الى مساجد الجاليات التركية في اوروبا ، يتقيدون بتعليمات حكوماتهم ، وخاصة النأي عن السياسة ، وطاعة القانون ، ولذلك كانت الاتراك في أي بلد أوروبي يتفادون تقليديا الاختلاط مع بقية المسلمين المهاجرين ، وعلى الأخص العرب ، لأن هؤلاء معروفون بانغماسهم في السياسة ، ووفرة نشاطاتهم وفعالياتهم وجماعاتهم ، وفي المقدمة جماعة الاخوان المسلمين ، وهي جماعة تميزت بكفاءة تنظيمية وحضور واسع وكثيف وفاعل ، طورته ونمته طوال 60 عاما من الهجرة والانتشار . 
في الأعوام الأخيرة تغيرت سياسة الدولة التركية من الاسلام ، وتلاها تغيير تعاملها مع جالياتها في اوروبا الغربية ، إذ لم يتردد اردوغان بزجها في الأنشطة الدينية – السياسية ، واستثمارها لصالح حزبه وبلاده . اضافة الى أن تحالفه الذي برز بقوة مع جماعة الاخوان المسلمين العربية ، هيأ قاعدة متينة لا سابق لها للتعاون بين الجاليات التركية والأخوان ، ودشن تحالفا منظما وقويا في عموم الدول الأوروبية والغربية . 
وهناك الآن لوبيات تركية تتوسل الاسلام في علاقاتها وتحركاتها وأنشطتها تنسقها وترعاها الدولة التركية ضمن استراتيجية منظمة تستهدف :
أولا –
انشاء أحزاب سياسية اسلامية للمنافسة في الانتخابات البرلمانية والمحلية بهدف الدفاع عن مصالح الجاليات المسلمة والدول الاسلامية التي ترعاها ( مثلا : حزبا ياسين ونيانس في السويد ، وحزب دينك في هولندا ، وحزب الاسلام في بلجيكا ، وحزب دوست في بلغاريا .. إلخ ) . 
ثانيا – تعاون واسع مع الاخوان المسلمين ، وهم القوة الأكبر والأكثر تنظيما في اوروبا ونجحت في أن تجعل من نفسها الممثل الأول لعشرات ملايين المسلمين العرب وغير العرب في أوروبا . 
ثالثا – اختراق أحزاب اوروبية لا تعادي الاسلام ، ولا ترفض وجودهم في صفوفها ، دعما لثقلها في الانتخابات ، كأحزاب البيئة والخضر واليسار .
رابعا – عقد تحالفات وشراكات مع منظمات وشخصيات سياسية تركية لامعة في أوروبا لصالح حزب العدالة والتنمية ، لكي تصوت له في الانتخابات التركية . وقد أخذت هذه التحالفات توفر نسبة لا يستهان بها من أصوات الناخبين ، تصل الى 50% من أصوات الأتراك في أوروبا ، الأمر الذي يكشف النوايا والاغراض الحقيقية لاردوغان وحزبه من هذه السياسة التي يرى كثيرون من الخبراء بأنها لا تخدم الاسلام ، ولا الجاليات الاسلامية ولا التركية ، بل ستعود بالضرر والخطر عليها ، لأنها ستجعل هذه الجاليات تبدو طابورا خامسا تعمل لحساب دولها الأولى ، في نظر الدول الأوروبية التي يقيمون ويعملون فيها .  
والجدير بالذكر أن اردوغان تحدث صراحة عن هذه الاستراتيجية في عدة مقابلات تلفزيونية وصحافية ، وأكد دعمه لها ، أبرزها في مقابلة مطولة عبر تلفزيون البانيا اثناء زيارته لها في يونيو 2017 ، وأخذ يهدد بها الحكومات الأوروبية التي باتت تحسب لها حسابا ، وتشعر بالقلق لأنها تخلق منظمات اسلامية توظف الدين لمصالح سياسية ، بشكل يخرق القيم والقواعد العلمانية ، ويهدد الديمقراطية ، لأنه يمكن قوى غير ديمقراطية من استغلالها للوصول الى البرلمانات والمجالس البلدية والمحلية خدمة لنفوذها وللدول التي ترعاها . وهذا ما دفع دولا ديمقراطية عريقة ، وذات علافات تاريخية مع تركيا ، وتمتاز بالتسامح لاعتبار السياسة التركية في هذا المجال مصدرا لأخطار أمنية كبيرة ، دفعتها لشن حملات أمنية واسعة على منظمات اسلامية ودور عبادة للجاليات التركية في النمسا والمانيا وفرنسا ودول بلقانية ، وحظرها واغلاقها لأسباب أمنية . 
وكان أردوغان في أحد تصريحاته العنترية الفجة دعا أتراك المانيا لتلقين الأحزاب الألمانية الرئيسية "المعادية للأتراك" درسا فى الانتخابات البرلمانية التى تجرى الشهر المقبل، فرد عليه وزير خارجية المانيا زيغمار غابرييل من التدخل في الشؤون السياسية الداخلية لبلاده فرد عليه اردوغان بالتهكم ، وكذلك تراشق مع الرئيس الفرنسي العبارات الهابطة قائلا له أنت مريض وتحتاج مصحة عقلية للعلاج .     
وجاء اقوى رد اوروبي على اردوغان من مستشار النمسا سبستيان كورتس متهما الرئيس التركي ببث الفتنة وخلق أجواء تخدم مصالحها الخاصة في النمسا، وهذا يعد سوء استغلال للأشخاص ذوي الجذور التركية الذين يعيشون في أوروبا". وقال في مقابلة مع صحيفة دي فيلت "الرئيس أردوغان يحاول استغلال الجاليات التركية ، وخاصة فى ألمانيا والنمسا.. إنه يثير الاستقطاب ويجلب النزاعات التركية إلى الاتحاد الأوروبى"، وأضاف : "أندد بالتدخل المستمر لأردوغان فى الشؤون الداخلية للدول الأخرى وهذا لا يحدث فى ألمانيا وحدها".
وأعقب ذلك قيام السلطات في النمسا والمانيا وفرنسا بمداهمة مقار جمعيات ومنظمات تركية أو عربية اخوانية مرتبطة بتركيا والتحقيق في نشاطاتها وعلاقاتها مع تركيا بخاصة والدول الأخرى بعامة . ومن المؤكد الذي يعرفه الخبراء في أوروبا أن سياسة توريط اردوغان للجاليات التركية والمسلمة في نشاطات تخدم تركيا على حساب مواطنيتهم في الدول الاوروبية ستعود بأفدح الأضرار على زهاء عشرة ملايين تركي يعيشون في اوروبا ويعملون ولهم مصالح اقتصادية ضخمة .

..يتبع

يرجى الضغط ✅هنا لقراءة الحلقة الاول 1: السلطان المفلس: سياسة أردوغان الخارجية (1من 3 ) بيع العرب.. وشراء "الأخوان" ! - بقلم محمد خليفة

 

الوسوم