بيروت | Clouds 28.7 c

السلطان المفلس: سياسة أردوغان الخارجية (1من 3 ) بيع العرب.. وشراء "الأخوان" ! - بقلم محمد خليفة

مجلة الشراع 22 كانون الأول 2020

 

يروي رواة الحديث الشريف أن الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم قال لصحابته ( إنَّ المُفلسَ من أُمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ، وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثمَّ طُرِحَ في النَّار) .

تذكرت هذا الحديث ووجدته ينطبق على سياسة وسلوك الرئيس التركي رجب طيب اردوغان على الصعيد الدولي ، إذ استلم السلطة وعلاقات بلاده جيدة مع كل دول العالم بلا استثناء ، ولكنه خلال سنوات رئاسته السبع السابقة استعداها جميعا ، فخسرت تركيا صداقاتها التاريخية مع الدول الاوروبية ، واشترى نصف صداقة مع روسيا ، العدو التاريخي اللدود لتركيا ، واستعدى الدول العربية كافة فخسرها ، ولم يكسب سوى صداقة إيران في الشرق الاوسط ، وهو يخاطر حاليا بخسارة الولايات المتحدة وحلفائه السابقين في حلف شمال الاطلسي . كما عاد مؤخرا فعرّض علاقاته النامية مع روسيا لضربة قاصمة ، جراء تدخله في ناغورنو كرباخ ، ثم عرّض علاقاته الانتهازية مع ايران لهزة عنيفة ، بسبب القصيدة الآذرية القومية التي اقتبس بعض أبياتها التي تتحدث عن احتلال ايران جزءا من أرض أذربيجان .

 وهكذا فتركيا الاردوغانية خسرت أكثر حلفائها وأصدقائها التقليديين والتاريخيين ، ولم تكسب بديلا عنهم ، فحتى علاقته مع الصين يشوبها الشك وعدم الثقة منذ أن أعلن تعاطفه وتضامنه مع المسلمين الآغور في الصين .

فما هي القاعدة التي تحكم علاقات أردوغان بدول العالم قريبها وبعيدها ؟

ولماذا انتقلت تركيا من (سياسة صفر مشاكل) مع دول الجوار ، الى سياسة (البحث عن المشاكل في كل العالم) ؟

وعلى من يعتمد اردوغان الآن في مغامراته واستعراضات القوة التي يجريها في المتوسط والقوقاز وشمال سورية وشرق العراق والخليج ؟؟    

انقلاب أردوغان على حزبه :

من المتفق عليه بين الباحثين والخبراء أن المهمة الأولى لرؤساء الدول هي توسيع وتطوير علاقات بلادهم مع بلدان العالم الأخرى على أساس المصالح المتبادلة والمشتركة السياسية، والاقتصادية، والاستراتيجية . وعليه فإن تقييم أداء الرؤساء يتمثل في حساب انجازاتهم واخفاقاتهم في زيادة الدول الصديقة ، وفتح آفاق التعاون الاقتصادي أمام شعوبهم ، وزيادة الاستثمارات ، والمبادلات المادية ، والديبلوماسية والثقافية ، وحل المشاكل والتوترات مع الدول الأخرى ، وإطفاء بؤر الصراعات ، وتحويل الأعداء الى محايدين ، والمحايدين الى أصدقاء ، وزيادة عدد الاصدقاء والحلفاء والشركاء .

ولو استعملنا هذا المقياس الكلاسيكي لتقييم أداء الرئيس أردوغان ، لوجدنا حصيلة خاسرة وخائبة ، تطغى عليها الإخفاقات والكوارث، منذ أن أصبح رئيسا للجمهورية عام 2014 ، وقام بإعادة هيكلة النظام التركي ، وتغييره من برلماني الى رئاسي ، ونقل سلطات الحكم من الحكومة الى رئاسة الجمهورية ، فأضحى سلطانا مطلق الصلاحيات يتحكم بمقاليد السياستين الداخلية والخارجية ، ويديرهما بواسطة مساعديه ومستشاريه المقربين . وأصبح رئيس الحكومة ، ووزير الخارجية مجرد موظفين منفذين لأوامره ، دون أن يكون لهما الحق في التخطيط والتقرير والاعتراض ، وتقلصت رقابة البرلمان على هذه السياسة بفضل هيمنة حزبه على أغلبية مريحة .

حتى السياسة الاقتصادية والمالية لم تعد تقرر وتنفذ من قبل (الحكومة) ولا في الوزارات المختصة ، ولكن في القصر الرئاسي بحسب تعليمات اردوغان وتوجيهاته المباشرة ، بعد أن عيّن صهره بيرات البيرق وزيرا للمالية ، رغم اجماع المراقبين على افتقاره للكفاءة والخبرة اللازمتين ، قبل أن يضطر للاستقالة مؤخرا معترفا بفشله ، بطريقة تشبه الهروب، نتيجة فشله المتكرر بوقف كارثة انهيار سعر الليرة المتوالي عبر السنوات الأربع الأخيرة التي أدار خلالها الوزارة بالتنسيق مع عمه رئيس الجمهورية وبرعايته .

 وذكرت معلومات وتقارير كثيرة عن فضائح فساد شخصي وعائلي ساهمت في الوصول الى الكارثة .

ولم تقتصر الآثار والأضرار على سقوط العملة الرسمية ، بل امتدت الى بنية الاقتصاد ، مما أدخله في أزمة عميقة ، انعكست على معيشة الطبقات الاجتماعية ، ومعدلات الاستثمار ، ومشاريع التنمية .

انقلاب السياسة الخارجية :

الواقع أن تلك الأزمات المتوالدة والمتزامنة ، ترتبط ارتباطا وثيقا بالسياسات الخارجية للرئيس أردوغان طوال ست سنوات ، وتبدو حصادا خائبا لتوجهات عاثرة ، ومفلسة على الصعيد الدولي ، حيث انقلب عنوان السياسة الخارجية لتركيا من (سياسة صفر مشاكل) أي حل كافة الاشكالات والتوترات مع دول الجوار في العقد الأول من عهد حزب العدالة والتنمية ( 2003 – 2013 ) ، حين كانت قيادته العليا تضم طاقما من الشخصيات الكبيرة ، يأتي على رأسها عبدالله غل وأحمد دواوود أوغلو وعلي باباجان الى (سياسة البحث عن المشاكل بأي ثمن !) في العقد الثاني من عهد الحزب ( 2014 – 2020 ) حينما أصبح اردوغان القائد الأوحد للحزب ، والموجه الفردي لسياسته ، وسلطانا مطلق الصلاحيات للدولة ، ونجح بالتخلص من رفاقه وشركائه غل ودواوود أوغلو وباباجان ، ولم يعد للحزب دور فعال كالسابق .

 إثر ذلك بدأ اردوغان باطلاق ومتابعة سياسته الخارجية التي شهدت انقلابات وتقلبات جذرية :

أولا – التحول من سياسة الانفتاح على دول الجوار ، والتعاون الايجابي مع البلدان العربية والاسلامية بعد قرن من النأي عنها ، الى سياسة التوسع ، والتدخل السلبي القائم على اشعال أو استغلال بؤر التوتر من سورية والعراق الى الخليج وشرق المتوسط .

ثانيا – التحول من سياسة التحالف المبدئي الثابت مع "الغرب" ممثلا بحلف شمال الأطلسي بقيادة الولايات المتحدة ، وتعزيز علاقات التعاون مع دول (الاتحاد الأوروبي) بقيادة المانيا وفرنسا وبريطانيا، الى سياسة الإنفتاح على روسيا والصين وايران وايران، والتعاون معها في كافة المجالات السياسية والاستراتيجية لا الاقتصادية فقط ، مما أظهر اتجاها استراتيجيا صاعدا لتقليص العلاقات مع الغرب وتوسيعها مع الشرق، للمرة الاولى منذ قيام الجمهورية التركية في عهد المؤسس مصطفى كمال اتاتورك قبل مائة عام .

ثالثا – التحول من السياسية العلمانية المبدئية المتشددة في مواجهة النزعات الاسلامية الدينية الى سياسة مختلطة ، يتزاوج فيها الانفتاح على الاسلام والتيارات الاسلامية للمرة الاولى ، بل والتحالف مع التيارات والجماعات الاسلامية الاخوانية والمعتدلة والمتطرفة . أي الانتقال والانقلاب من النقيض الى النقيض .

رابعا – طرح خطاب إحيائي للهوية العثمانية ، واستعادة الطموحات العثمانية التوسعية ، يزاوج بين العنصرين القومي والديني ، والسعي للعب دور قيادي على الصعيد الاقليمي العربي والاسلامي .

 ترجمة لهذه التحولات التي تنطوي على عودة رجعية لمفاهيم السياسة الدولية في العصر الحديث ، بدأ أردوغان بعقليته الاسلاموية الشعبوية انتهاج سياسة لا تلتزم بمبادىء وقواعد القانون الدولي الساري المفعول في العلاقات الدولية ، ودعم حركات اسلامية معارضة لأنظمة بلدانها على حساب العلاقات الرسمية مع الأنظمة ، وكانت البداية مع الدول العربية والدول الأوروبية ، اللتين تمثلان أهم مجالين للمصالح الاسترانيجية الجيو- سياسية والاقتصادية والثقافية .

تخريب العلاقات مع العرب :

المثال الواضح لهذه السياسة هو دعم اردوغان لجماعات "الاخوان" العربية، وخاصة في مصر وسورية والعراق وليبيا وتونس والجزائر والسودان وفلسطين واليمن . إذ فضل اردوغان علاقاته مع "أخوان" هذه الدول على العلاقات الرسمية مع حكوماتها ، وفقا للقاعدة السارية في العلاقات الدولية  (دولة مع دولة) ، بل وخاض صراعات ضارية مع النظام المصري برئاسة عبد الفتاح السيسي ، بعد اطاحة الرئيس الأخواني محمد مرسي . وتورط في حروب "الاخوان" في ليبيا ، وكذلك الثورة السورية ، وفي العراق ، ثم ضحى بعلاقات بلاده مع السعودية والامارات انحيازا الى صف قطر ، وأرسل قوات عسكرية للدفاع عن حكومتها ونظامها الحليف أيضا للأخوان . كما ضحى بعلاقات بلاده مع العراق دفاعا عن الأقلية التركمانية والحزب الاسلامي برئاسة طارق الهاشمي . وسبب توترا في علاقات بلاده التاريخية والاستراتيجية مع اسرائيل بسبب دعمه لحركة حماس الفلسطينية ، والسلطة الوطنية ، رغم أن هذا الدعم كان لفظيا ودعائيا أكثر منه عسكريا أو اقتصاديا .

لم تمض سنتان على هذا الاتجاه الأردوغاني الإديولوجي حتى اضطربت علاقات تركيا مع غالبية الدول العربية ، من السعودية الى مصر ومن الإمارات الى تونس ، مرورا بالعراق واليمن وليبيا . وبطبيعة الحال فقد خسر الاقتصاد التركي الكثير من الاستثمارات العربية ، وملايين السياح ، وخسرت الصادرات التركية الأسواق العربية الكبيرة ، كالسوق المصري والسوقين السعودي والاماراتي .. إلخ .

والأهم من هذه الخسائر المادية الهائلة ، خسرت تركيا ثقة العرب بها ، والعلاقات الطيبة والودية التي حققتها ونمتها الدول العربية وتركيا معا في العقود الأخيرة . إذ كان الطرفان قبل اردوغان يسعيان لفتح صفحة جديدة في علاقات الطرفين الأخوية ، تطوي الذكريات المريرة التي خلَّفها الاحتلال العثماني – التركي البغيض، وثورة العرب الكبرى عام 1916 التي استهدفت الاستقلال والتحرر عن السلطنة العاجزة ، وبناء مملكة عربية كبيرة . إلا أن سياسة أردوغان وخطابه الفوقي والعنصري أحيانا ضد العرب والعروبة ، وتعاونه - أو بالأحرى تواطؤه - مع إيران في سياستها المعادية للعرب ، طوال العقد الأخير ( 2011 – 2020 ) نكأ الجراح المندملة ، وأيقظ الذكريات القديمة ، وأحيا المخاوف من الأطماع التوسعية التركية والتي تعبر عنها اطروحة ( العثمانية الجديدة ) بعد أن أصبحت خطابا رسميا ، يحمل توقيع وخاتم السلطان أردوغان . وترتب على ذلك أن ينظر العرب عموما حكومات وشعوبا الى اردوغان ، كجار خطر يضمر نوايا شريرة ، أو كعدو جديد ، لا سيما أنه كان يتعاون مع الايرانيين في غزوهم لأربع بلدان عربية ، وهم ينفذون استراتيجيتهم العدوانية والتوسعية ، بما فيها تهديد بلاد الحرمين الشريفين وقصفها ، دون أن يصدر عن انقرا أي استنكار أو احتجاج .

لقد اتضح التواطؤ الايراني – التركي الاستراتيجي ضد العرب أكثر فأكثر مع بداية 2019 حين بدأت تركيا تتدخل في ليبيا مستغلة انشغال وضعف العرب نتيجة المؤامرات والحروب التي شنتها ايران بواسطة أذرعها في المنطقة ، ثم أخذت تجند المقاتلين السوريين، كمرتزقة لحسابها في حروبها التوسعية والعدوانية في ميادين قتال بعيدة ، تحت ضغط الحاجة والإكراه المادي والمعنوي الواقع عليهم من السلطات التركية فضلا عن ظروف تهجيرهم وصراعهم مع نظام الاسد وحلفائه .

وفي عام 2020 بدا أن اردوغان استوحى الاستراتيجة الايرانية ، وشرع في تطبيقها درسا درسا ، ولا سيما إشعال الأزمات واستغلال الانقسامات العرقية والمذهبية وتجنيد الاقليات التركية ( قبرص سابقا ) والتركمانية (في سورية والعراق وليبيا) .. إلخ ، وانشاء ميليشيات موالية لتركيا من جنسيات غير تركيا واستعمالها للقتال في جبهات بعيدة ، مقابل المال والولاءات الدينية والاديولوجية ، تحاشيا لإرسال قوات تركية نظامية ، أو غير نظامية ، لأن الشعب التركي لا يقبل التورط المباشر لقوات بلاده في حروب بعيدة ، كحرب ناغورنو كرباخ ، أو في الحرب الليبية ، أو الصومالية ، أو حتى السورية ، والعراق ، بسبب وجود معارضة قوية داخل تركيا ، ووجود برلمان منتخب .

بهذه الطريقة تسبب اردوغان بتخسير بلاده عشرين دولة عربية ، ولم يكسب بالمقابل غير ايران وقطر وجماعات الأخوان ، وحركات مشابهة لها .

 وفي السنوات الاخيرة أصبحت استانبول وبقية الولايات التركية أعشاشا وملاذات آمنة لعشرات ألوف الكوادر الاخوانية القيادية ، من كافة الدول العربية ، يتخذون منها منصات انطلاق للنضال والقتال ضد أنظمة الحكم العربية ، من مصر الى اليمن والسعودية ، ومن السودان وليبيا الى فلسطين والعراق والجزائر وموريتانيا ، ودول افريقية أيضا. وكان بين هؤلاء مجموعات اسلامية متطرفة ، من القاعدة وداعش .. إلخ .

يتبع ..

يرجى الضغط ✔هنا لقراءة: السلطان المفلس : سياسة اردوغان الخارجية ( 2 من 3 ) كيف تحولت تركيا الى أكبر تهديد خارجي لأوروبا ؟! بقلم محمد خليفة

الوسوم