بيروت | Clouds 28.7 c

جموح أردوغان بين الوجع الفرنسي والتبصر الألماني / بقلم فؤاد مطر

مجلة الشراع 8 تشرين الثاني 2020

أدخل الرئيس رجب طيِّب أردوغان إلى أدبيات التخاطب بين أُولي المقامات الرئاسية عبارات وأوصافاً وتصنيفات مفقودة الود وإلتزام الحدود، سبقه في هذا الإبتكار الرئيس دونالد ترامب. فكما نال المنافس الأكثر رقياً في انتخابات الرئاسة الأميركية جو بادين من نعوت رماه بها منافسه دونالد ترامب، فإن بايدن مسوَّق المخطط المريب لتقسيم العراق في زمن كان يتولى فيه منصب نائب الرئيس أوباما، وحمداً لله أن العراقيين تنبهوا ولم يأخذوا بالمبتغى التقسيمي ذاك، لم يقصِّر في حق ترمب. ولطالما ألِفْنا في العالم العربي سماع كثير من النعوت غير اللائقة من بعض حكام زمن الستينات يبثونها من دون أن يرف لأحدهم رمش، عبْر الميكروفونات في مناسبات إحتفالية أو مهرجانات شعبية من نوع مهرجانات باتت من نوعية التراث الكوبي حيث كان الزعيم التاريخي للدولة التي كادت تشعل الحرب العالمية الثالثة، يستمر خطيباً لمدة ساعتين أحياناً من دون سيكاره رفيقه الدائم.

قد تكون توصيفات الرئيس ترمب لمنافسه بايدن أدخلت بعض مشاعر السرور في نفوس قطاعات من الجمهوريين في أكثرية الولايات فإرتفعت بذلك درجة حرارة الميزان الشعبوي الترامبوي. وقد تكون توصيفات الرئيس أردوغان للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أشعلت حماسة لدى نواب حزب أردوغان فوقفوا يصفقون طويلاً وبحرارة له. لكن هذه التوصيفات في مجملها أضرت بمَن أطلقها، ذلك أن بايدن الذي ينافس نيابة عن أميركا الحزب الديمقراطي دونالد ترمب الجمهوري المتطلع إلى أربع سنوات أُخرى تقيه من إجراءات كثرة ملفات قد يتم فتحها في حال بات مواطناً كسائر المواطنين لا تخفف من وطأتها ترتيبات المنصب القضائي الأعلى في الولايات المتحدة محاولات الخصوم الثأر منه، ليس نعساناً وإنما هو مستيقظ وفي الوقت نفسه لا يفارق المنبه الإنتخابي صولاته وجولاته. وفي المقابل إن ماكرون خصه الخالق بعقل نيِّر وغير مسكون بعقدة صدمة زعامية كتلك التي مُني بها أردوغان في إسطنبول زائداً الإحباط الناشئ عن إخفاق مشروعه الإستيطاني في سوريا. وإذاً فإن الذي يحتاج إلى صدمة تنبيه له هو أردوغان وليس ماكرون.

وقد تكون خسارة أردوغان لبلدية إسطنبول، وبالذات بعد جولة الإعادة، ما زالت حاضرة أيضاً في حراكه الذي يتسم بالعشوائية. وهو عندما حاول معالجة جرح الخسارة بتحويل متحف آيا صوفيا يوم 24 يوليو/تموز 2020 إلى مسجد غير آخذ في الإعتبار بأن تحويله من مسجد في زمن فتح القسطنطينية إلى متحف في زمن الإستقلال الأتاتوركي كان من ملامح التوجه العلماني، وغير عابىء بمشاعر وجدانية أرثوذكسية ثم كاثوليكية بردود الفعل اللائمة على هذه الخطوة التي كانت تحتاج إلى بعض التأمل، فإنه يمم الوجه غازياً ليبيا وبالأسلوب نفسه ﻟ غزوة صدَّام حسين لدولة الكويت التي كانت إحدى رافعات الثقل المادي والإعلامي عنه طوال سنوات الحرب مع إيران غارساً في الأرض الخليجية بذور حالة من الحذر وفي العلاقات العربية تشققات أسست بالتالي لنمو الشعور الإقليمي متقدماً على الشعور القومي... فالجنوح السلمي التطبيعي خطوة.. خطوات.

في ضوء الفعل الصدَّامي وكيف أن حُلْم صدَّام حسين ﺑ "دولة العراق العظمى" بإعتبار وصول غزوته للكويت إلى ما تصور حدوثه، كان حرياً بالرئيس أردوغان قراءة واقع الحال بالكثير من التنبه، فلا يتصور أنه بإخراج الأواصر العثمانية العابرة في بعض الدول العربية من إضبارة طواها الزمن يستملك مستندات لحقوق يستردها بضخ السلاح والكلام والمستشارين. وأما عنصر التدخل الميداني فمن خلال مرتزقة وذلك لأن ليس له كما حال إيران، الحزب أو الميليشيا. ومن ليبيا تطال اليد الأردوغانية تونس. ومن خلال الإستحواذ على ليبيا يتطاول على اليونان وعلى مصر ويهز إستقرار قبرص ويواصل وجوداً غير شرعي في سوريا ثم يضرب الضربة الكبرى التي هي التأهب لغزوات أوروبية.

من هنا جاء الموقف الذي إتخذه الرئيس ماكرون وذلك لأن فرنسا ذات خصوصية غير موجودة لدى دول أُخرى من القارة العجوز، حيث أن النسبة العظمى من الخمسة ملايين مسلم الذين هم الجناح المسلم من فرنسا الكاثوليكية ذات الستين مليوناً هم من السُنة، وهذا ييسر له أمر توظيفهم مع الوقت ﻛ "لوبي" يحقق من خلاله مشروعه العثماني.

لم تؤذ فرنسا الماكرونية بشيء تركيا الأردوغانية. لفرنسا موقف إنساني من الإبادة التركية للأرمن، لا يقتصر عليها وحدها. وبدل عبارات إساءة للذات الماكرونية كان يمكن للأمور أن تُحل ببعض المسايرات، مثلما كان من الأفضل عدم إستعمال الصور المسيئة جملة وتفصيلاً بحق الذات الرسولية ذريعة يوظفها أردوغان بما يتبين أنها لا تفيد في تدعيم مخططه العثماني كما أنها تضر المسلمين الذين يعيشون في الكثير من العواصم والمدن والبلدات في دول أوروبا. ثم إن من حق ماكرون أن يتخذ من الوسائل والقرارات التنظيمية التي تجعل المسلم الذي يعيش في فرنسا عربياً كان أو أفريقياً أو أسيوياً تحت خط القانون وإعتبار التقاليد والثقافة والحجاب كما الأمن والسلامة خطوطاً حمراء. من هنا لماذا هذه الهجمة التهجمية عليه. وهل يترك فرنسا ويترك كذلك بقية قادة دول أوروبا الأبواب مشرعة أمام حملة السكاكين المستعدين بسبب تثويرهم الخاطىء إلى إعتماد النحر وسيلة إنتقام بديلاً لأسلوب الحوار.

لكن في السياق نفسه هنالك مسؤولية يتحملها الرئيس ماكرون وكل من سيليه، كما كان يتحملها من سبقوه ولم يتنبهوا لها، وهي توعية أصحاب الأقلام والريشة والحنجرة الصادحة من أنه عندما تكون الجمهورية الفرنسية ذات ديانتيْن رئيسيتيْن المسيحية والإسلام ويكون هنالك خمسة ملايين فرنسي مسلم باتوا جزءاً من النسيج الاجتماعي، فعندها لا تعود حرية الرأي تتقدم على الحساسيات الدينية. وبالتالي لا يعود من المناسب من أجْل سلامة المجتمع وإستقرار كيان الدولة، أن تكون ريشة رسام كاريكاتور تعلو على سلامة وطن كما لا يعود من حق أستاذ مدرسة أن يتفكهن أمام طلابه. وهذا أمر تحدده إستراتيجية مكتملة بمعنى أنها لا تقتصر على تنظير ﻟ "الإنفصالية الإسلاموية" أو "الإسلام السياسي" و "الإسلام الراديكالي"، وإنما أيضاً مواءمة متعقلة بين حرية إبداء الرأي والخشية من أن يكون الرأي الحر هذا قولاً أو رسماً فتيلاً قابلاً للإشتعال ناراً  في كنيسة أو للنحر رقاباً في مدارس.

ومن باب التذكير الذي قد ينفع فإن المستشارة أنغيلا مركل وافقت يوم الجمعة 15 نيسان/ أبريل من العام 2016 على طلب الحكومة التركية مقاضاة الفنان الكوميدي الألماني يان بومرمان الذي كان ألقى خلال برنامج بثته شبكة تلفزيونية عامة قصيدة بذيئة في شأن أردوغان.

فعلت ميركل ذلك لأنها كريمة الأخلاق وتدرك مصائر الوغول في مسألة حرية الرأي وإلى درجة مس كرامات الناس رؤساء مثل أردوغان كانوا أو مواطنين أُسيء إليهم.

هكذا تصرفت ميركل مع أن طرف القضية المستهزأ به رئيس دولة. كيف لا يحذو الرئيس ماكرون حذو المستشارة البعيدة النظر، مع أن الإساءة التي ألحقتْها مجلة تحتمي بتقاليد حرية التعبير وإبداء الرأي، كانت بخير الأنام الذي من سوء حظ الرئيس ماكرون أن تنظيراته المعطوفة على ما أصاب المدرس الفرنسي المبتهج بإحدى الرسوم الرسولية، تزامنت مع ذكرى المولد النبوي. وهذا جعل أردوغان يزداد أردوغانية وجعل كثيرين من المسلمين يتأثرون. والفرصة مناسِبة أمام الرئيس ماكرون لتعزيز إستراتيجيته الإسلامية في معالجة الحالة الإسلاموية التي أصلاً هي موضع إنشغال بال في الدول العربية والإسلامية عموماً. والله المعين.

 

 

 

الوسوم