بيروت | Clouds 28.7 c

عبد الله بن عبَّاس حَبرُ الأمة وتَرجُمانُ القرآن/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 5 تشرين الثاني 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير} سورة المجادلة.

ما زال العلماء مصابيح هدىً يُضيئون للناس وسط الظلام الدَّامس فيهتدي بنورهم المسترشدون ويقتبسُ من شُعاعهم طُلَّاب الحقائق، فقد تركوا كنوزًا أغلى من الجواهر وجديرٌ بالعاقل أن يستفيد من هذا التراث العظيم، ومن أبرز هؤلاء الأئمة سيدنا الصحابي الجليل عبد الله بن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وشرفٌ لنا أن نُظهر بعض مناقب هذا الإمام الكبير للناس ليقتديَ به طُلَّاب العلم فنقول: كان ابن عبَّاسٍ جامعا للفضائل أمسك بالمجد من أطرافه، فهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناهيك بهكذا نسَبٍ في ذُرى العُلا، وبلغ في العلم مبلغًا قلَّ أن يصل إلى مثله طالب. وقد وُلد ابن عبَّاسٍ قبل الهجرة الشريفة بثلاث سنين وتوفي النبي صلى الله عليه وسلم ولابن عبَّاسٍ ثلاث عشرة سنة حظي فيها بقسطٍ عظيم من بركة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يستأذن أحيانًا في المبيت عند خالته ميمونة زوجة النبي صلى الله عليه وسلم ليرى ماذا يفعل النبي صلى الله عليه وسلم بالليل فيتعلَّم منه.

مجدٌ وشرف

 وعن ابن عبَّاسٍ أنه كان في بيت خالته ميمونة فوضع للنبي صلى الله عليه وسلم طَهُوره (ماء الوضوء) فسأل النبي صلى الله عليه وسلم من وضَعه؟ فقالوا: ابن عبَّاس قال: فضرب على منكبي أو صدري وقال: اللهم فقِّهه في الدين وعلِّمه التأويل" رواه الطبراني. وقد استجاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم دعوته هذه كما يشهد لذلك حالُ ابن عبَّاس إذ شَبَّ عَلَمًا وافر العقل غزيرَ العلم بارعًا في تأويل القرآن الكريم وشهد له بذلك أكابرُ الصَّحابة ففي "صفة الصَّفوة" لابن الجوزي عن سيدنا عمر أنه قال لابن عبَّاس: "واللهِ إنك لأصبح فتياننا وجهًا وأحسنهم عقلًا وأفقههم في كتاب الله عزَّ وجل". وكان سيدنا عمر يُسمِّيه "فتى الكُهول" كما في "تاريخ دمشق" لابن عساكر"، والكهل هو من جاوز الأربعين من العمر، والمعنى أن ابن عباسٍ على حداثة سنة له علمٌ وفهمٌ وحكمةٌ كأهل الفضل من الكهول. ومن شواهد حرصه على العلم ووفور عقله ما رواه الحاكم في "المستدرك" عن ابن عباس قال: "وإن كان يبلُغُني الحديث عن الرجل فآتي بابه وهو قائل (من القيلولة وهو النوم وقت الظَّهيرة) فأتوسد ردائي على بابه يَسْفي الريح عليَّ التراب فيخرج فيراني فيقول: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء بك؟ هلّا أرسلت إليَّ فآتيك. فأقول: لا، أنا أحقُّ أن آتيك". وفي "صفة الصَّفوة" لابن الجوزي عن ابن عبَّاسٍ قال: "كان عمر رضي الله عنه يأذن لأهل بدر ويأذن لي معهم فقال بعضهم: أتأذن لهذا الفتى ومن أبنائنا من هو مثله؟ فقال: فإنه ممن قد علمتم. فأذِن لهم يومًا وأذِن لي معهم فسألهم عن هذه السورة "إذا جآء نصر الله والفتح" فقالوا: أمر الله عزَّ وجلَّ نبيه إذا فتحَ الله عليه أن يستغفر وأن يتوب إليه (واستغفار النبي صلى الله عليه وسلم لعلوِّ الدرجة وفيه تعليم للأمة أما هو فمعصوم) فقال لي: ما تقول يا ابن عبَّاس. فقلت: ليس كذلك ولكنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بحضور أجله فقال "إذا جاء نصر الله والفتح" فتحُ مكة "ورأيتَ الناسَ يدخلون في دين الله أفواجا" أي فعند ذلك علامة موتك. فقال عمر: كيف تلُوموني عليه بعد ما ترونه". وكذلك في "صفة الصَّفوة": إن الناس اجتمعوا يومًا بباب ابن عبَّاس فأمر صاحبه فخرج إليهم فأذن لمن يريد أن يسأل عن القرآن وتأويله، فدخلوا فما سألوا عن شىء إلا أخبرهم وزَادَهم، فخرجوا ودخل من يريد أن يسأل عن الحلال والحرام والفقه فما سألوا عن شىء إلا أخبرهم وزادهم، فخرجوا ودخل من أراد أن يسأل عن الفرائض (المواريث) فما سألوا عن شىءٍ إلا أخبرهم وزادهم، فخرجوا ودخل من يريد أن يسأل عن العربية والشعر والغريب من الكلام، فما سألوا عن شىءٍ إلا أخبرهم وزادهم، قال صاحبه: فلو أن قريشًا كلها فَخَرت بذلك لكان لها فخرًا فما رأيت مثل هذا لأحد".   

التأويل عند ابن عبَّاس

قال تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله والرَّاسخون في العلم} الآية سورة آل عمران. في "تفسير الطبري" عن ابن عبَّاس قال: "أنا ممن يعلم تأويله".

وقال تعالى في أهل الكهف: {قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل} سورة الكهف. وفي "تفسير الرازي" ما نصُّه: "وكان ابن عبَّاس يقول: أنا من ذلك القليل. وكان يقول: إنهم سبعة وثامنهم كلبهم".

لقد تحقق دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في ابن عبَّاس كما مرَّ فنبغ في تأويل القرآن الكريم، وقد جاءت في ذلك عنه رواياتٌ عديدة من أجودها ما رواه عنه علي بن أبي طلحة ففي "الإتقان" للسيوطي عن الإمام أحمد بن حنبل قال: "بمصر صحيفة في التفسير رواها علي بن أبي طلحة لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرا".

وكان من براعته أنه يؤوّل تأويلًا تفصيليًا فأوّل قوله تعالى: {الله نور السموات والأرض} بالهادي أي هدى اللهُ أهلَ السموات الملائكة وكثيرًا من أهل الأرض لنور الإيمان كما في "زاد المسير" لابن الجوزي وغيره. وأوّل الساقَ في قوله تعالى: {يوم يُكشف عن ساق} بالشدة كما في "زاد المسير" أيضًا وهذا سائغ، وأنشدوا: "وقامت الحربُ بنا على ساق" أي اشتدت. وهذا يعني أن السلف ومنم ابن عبَّاسٍ كانوا يُنزهون اللهَ عن الجسمية وأن من السلف أي أهل القرون الثلاثة الأولى من أوَّل تأويلًا تفصيليًا خلافًا للوهابية الذين يُنكرون التأويل التفصيلي عن السلف.

وفاته

عاش سيدنا ابن عبَّاس عمره في خدمة الدين ونشر الخير حتى وافاه الأجل سنة ثمانٍ وستين للهجرة عن إحدى وسبعين سنة، وفي "سير أعلام النبلاء" للذهبي أن ابن عبَّاس مات بالطائف فلما دُفن سُمع صوت تالٍ عند القبر ولم يُر شخصه يتلو: {يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضيةً مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي} سورة الفجر.

رضي الله عن سيدنا ابن عبَّاس ونفعنا به.

والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم