بيروت | Clouds 28.7 c

معرفة الشر واجتنابه / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 1 تشرين الأول 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{فَفِرُّوا إلى الله إني لكم منه نذيرٌ مبين} سورة الذَّاريات.

وعن حذيفة بن اليمان قال: "كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يُدركني فقلت: يا رسول الله إنَّا كنَّا في جاهلية وشرّ فجاءَنا الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم. قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دَخَنٌ. قلت: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يهدُون بغير هديِي تعرفُ منهم وتُنكر. قلت: فهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم دُعاة إلى أبواب جهنم من أجابهم إليها قذَفُوه فيها. قلت: يا رسول الله صفهم لنا. فقال: هم من جِلدَتنا ويتكلَّمون بألسنتنا. قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم. قلت: فإن لم يكن لهم جماعةٌ ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلَّها ولو أن تعضَّ بأصل شجرةٍ حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك" رواه البخاري.

لا يخفى على كل ذي لبٍّ ما يلُفُّ الدنيا من شُرورٍ وآثامٍ يفعلها بعضهم وهو يُدرك أنها شرٌ ويفعلها آخرون ويظنون أنها قُربةٌ إلى الله جهلًا منهم وتلبيسًا من الشيطان عليهم، ومن أخطر ما ابتُليت به هذه الأمة قديمًا وحديثًا جاهلون يعتقدون جهلهم علمًا وضلالَهم هدىً فهم كمن قال ربنا فيهم:{وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون} سورة البقرة.

الفِرار إلى الله

ومن وفَّقه الله كان من الذين يفرُّون إلى الله كما أمر الله. قال السمعاني في "تفسيره": "قوله تعالى: "ففرُّوا إلى الله" أي من معصيته إلى طاعته ويُقال من سخطه إلى رحمته ومن عِقابه إلى عفوه". وهذا يقتضي أن يثبت المرء على ما يُرضي اللهَ تعالى لا سيما عند طروء الفتن وتعدُّد الفرق كما هو حاصل اليوم فيفر اللبيب من الشر إلى الخير ولن يميز الخير من الشر إلا إذا تعلَّم، ولذلك قيل:

تعلَّمت الشر لا للشّر                لكن لتوقِّيه              

ومن لم يعرف الشرَّ                  من الناس يقع فيه

   وبالنظر في حديث سيدنا حذيفة يجدر بنا أن نقف على مدلولاته فإن هذا الحديث العظيم من أعلام النبوة، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأمور مختلفة من الغيب أطلعه الله عليها، وذلك أن الله يُطلع من شاء من الأنبياء والأولياء والملائكة على جزءٍ من الغيب لا كل الغيب، ومن حِرص سيدنا حذيفة على نفسه وسلامة دينه كان يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الشر ليعرفه فيأخذ بأسباب السلامة منه لأن من عرف الشر أدرك أن ما يُقابله هو الخير فالتزمه وترك الشر، بينما كان أكثر الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير أي عن الطاعة ليمتثلوها أو عن السَّعة والرَّخاء ليفرحوابذلك، وقد بيِّن النبي صلى الله عليه وسلم لحذيفة حين سأل هل بعد الذي منَّ الله عليهم به إذ أخرجهم من ظلمات الجاهلية إلى نور الهدى وأصلح حالهم بالإيمان من شرٍ أنه سيكون ذلك.  

اعرف الشر لتحذره

قال البدر العيني في "عمدة القاري": "وقال الكرماني: يحتمل أن يُراد بالشر زمان قتل عثمان رضي الله تعالى عنه وبالخير بعده زمان خلافة علي رضي الله تعالى عنه، والدَّخَن الخوارج (أول فرقة شذَّت في الاعتقاد عن الصَّحابة) ونحوهم، والشر بعده زمان الذين يلعنونه (أي يلعنون عليًا ظلمًا وبغيًا) على المنابر". فقد حصلت فتنٌ كثيرةٌ أدت إلى قتل أمير المؤمنين عثمان ثم منَّ الله على المؤمنين بخلافة عليٍ عليه السلام وهو رجل خير وبركة وعلم لا يخفى قدره، ومع ذلك كان في أيامه دَخَنٌ أي أمورٌ منكرة أي لم يكن الزمان كله خيرًا خالصًا وإنما كان كدرٌ وظلمة بمنزلة الدُّخان من النار، فظهر الخوارج وهم قومٌ يمشون على غير هدي النبي صلى الله عليه وسلم أي يدلُّون الناس على غير طريقته ويتَّخذون سيرةً غير سيرته فيعرف الواحد منهم ويُنكر، أي يرى فيهم ما يَعرفه أنه من الدين ويرى فيهم ما يُنكر أنه من الدين، وهكذا كان الخوارج ومن انتسب إليهم وهكذا ترى الوهابية ومن انتسب إليهم في زماننا فقد كفَّر الخوارج قديمًا عثمان وعليًا رضي الله عنهما ولقي المؤمنون منهم أذىً شديدًا فكانوا يقتلون المرأة المسلمة، ويبقرون بطن الحامل بعد قتلها فيقتلون الجنين في أحشائها لئلا يصير كافرًا كأمه بزعمهم، ونشأت فيهم فرقة يقال لهم البيهسية كفّروا الحاكمَ إذا حكم بغير الشرع وكفَّروا الرعايا سواءٌ من تابعه أم لم يتابعه إذا لم يثوروا عليه لخلعه.

وعلى هذا سار أدعياء السلفية فكفَّروا المسلمين وزعموا أن تقليد المذاهب من الشرك كما في كتابهم المسمِّى "الدين الخالص" ووافقهم سيد قطب فكفَّر البشريةَ بجملتها في كتابه المسمِّى "في ظلال القرآن" ومن تابعه من حزبه المسمى بالإخوان المسلمين وهؤلاء في الحقيقة دعاةٌ على أبواب جهنم باعتبار ما يؤول إليه حالهم وهم لا يشعرون ومن أجابهم أي وافقهم قذفوه فيها أي إلى الضَّلالة المؤدية إليها لأنهم صاروا سببًا لقذفه في جهنم، وقوله: "من جِلدتنا" أي من قومنا ومن أهل لساننا، قال الحافظ ابن حجرٍ في "الفتح": "وفيه إشارةٌ إلى أنهم من العرب" وجِلدة الشىء ظاهره، فهم في الظاهر مثلنا يحسبهم من لا يعرفهم مؤمنين ولكنهم في الحقيقة على خلاف الحق فظاهرهم مسكينٌ وباطنهم سكِّين، فمن أراد السلامة في ظل هذه الأحوال فعليه بلزوم جماعة المؤمنين وإمامهم فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام فليلزم ما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم باعتزال كل تلك الفرق الشاذَّة والثبات على الحق وإن قلَّ أنصاره.

فعليك بذلك ولو أن تعُضَّ بأصل شجرة حتى يُدركك الموت وأنت على ذلك أي ثابتٌ عليه، وعضُّ أصل ِالشجرة كناية عن مكابدة الشدَّة، تقول العرب: فلان يعضُّ الحجارةَ من شدة الألم، والمراد الأمر بالثبات على الحق والصبر على تحمُّل شدَّة الزمان.

والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم