بيروت | Clouds 28.7 c

38 عاماً على مأساة صبرا وشاتيلا، المُسعِف انطوان أبو خليل ذاكرة على قيد الحياة.. يُخشى أن تُصبح في عِداد المفقودين / بقلم نداء عودة

مجلة الشراع 17 أيلول 2020

 

تطوّعَ انطوان أبو خليل في الصليب الأحمر اللبناني عام ١٩٧٨،كانت الحرب الأهلية آنذاك تتأجّج وتحطّ رحال الدم والموت في غير منطقة من الوطن المنقسِم بين مشروعين متناقضَين، لطوني، كما لزملائه ملائكة الانسانيّة في أزمنة الموت، الكثير من الحَكايا التي من شأنها أن تشكّل حقائق وإرهاصات لمعرفة مصير آلاف المفقودين، وقد طرح طوني وعدد من رفاقه أن يكشفوا معلوماتهم لعلّها تُثلج صدور الأهالي في حقّهم بمعرفة مصير مفقوديهم وعلّها تبدأ بطيّ هذه الصفحة المظلمة من الحرب الأهلية اللبنانية، الأمر الذي بدأ مستحيلاً  على الرغم من صدور قانون المفقودين والمخفيين قسراً أواخر العام ٢٠١٨ الذي يعطي الحق لأهالي المفقودين بمعرفة أماكن وجود او احتجاز او أمكنة وجود رفاتهم واستلامها.

لكن، على الرغم  من نضال سنوات طويلة للمنظمات الحقوقية لانتزاع هذا القانون، إلاّ أنه خرج ليكون ذرّاً للرماد في العيون بما أن أمراء الحرب الأهلية لازالوا الممسكين بالسلطة في لبنان، من هنا فإن الصليب الأحمر كمنظمة دولية إنسانية يستطيع التعاون بالمعلومات والمعطيات مع الدولة إذا عَزِمت على تطبيق القانون لمعرفة مصير آلاف من اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم ممن فُقدوا خلال الحرب. لكن السلطة التي يتزعّمها أمراء هذه الحرب لا تملك هذه النيّة مطلقاً.

وبما أننا في صُلب تذكّر مأساة مخيّم شاتيلا  وصبرا وهو الحيّ  الملاصق له، حيث يسكن فلسطينيون لاجئون ولبنانيون فقراء في منطقة هي أحد مداخل بيروت الأساسية، فإنه وبعد ثمانٍ وثلاثين عاماً على المأساة نتكلم عن المجررة وضحاياها ونغفل مفقوديها، وقد يعود ذلك لسيطرة هَوْل مشاهد القتل التي هزّت العالم.

 

هنا عُدتُ كثيراً إلى طوني والأحاديث التي جمعتنا، لم يكن خارجاً عن سياق النّص أن أسئلتي التي تحاول إستنباط تفاصيل ذاكرته عن المجزرة، استنبطت دموعه، هذا على الرغم من أنه شديد ولا يتكلم إلاّ عن وقائع وأرقام، وجلّ ما يختصرهُ لك طوني ابن بلدة المريجة، أنه إعتنق الإنسانية في خدمته للناس أثناء الحرب، وأن والدهُ قد فعل شيئاً عظيماً حين منعه وهو مراهق من الإنضمام إلى واحدة من ميليشيات الحرب، وفي بلدته كان أهلهُ يجاورون عائلات فلسطينية لازالت اواصر المحبة والصداقة تجمعه وعائلته بهم حتى اليوم، ويستخلص طوني الموضوع بالقول، بعكس ما يعتقد البعض الكثير من مجتمعنا كمسيحيين ، فإن الفلسطيني ليس عدوّاً، ويذكر عن طفولتهُ المشاغِبة أنّه كان يسرق أدوات الخياطة خصوصاً جارتهم الفلسطينية أم محمد ليصنع منها أدوات لعِب وضرب الحصى والحجارة، وعندما تكتشف الحاجة الأمر كانت تقول له "آه يا عمر العيّار.. شاقق الأرض وطالع منها"

ومن هو عمر العيّار يا طوني؟

ثائر حيّر البريطانيين في ثورة ١٩٣٦ بفلسطين.

 

بطريقة أو بأخرى، دعّمَ هذا الوعي عند طوني استماتته في إنقاذ أيّ من ضحايا الحرب، حتى أنه استخدم حماراً حين منعت سيارات الإسعاف من دخول أحد ساحات المعارك في الجنوب أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان في العام ١٩٨٢ وهي الحقبة التي  شهدت مجزرة صبرا وشاتيلا.

 

كان ملفتاً تضارب أرقام ضحايا المجزرة، وقال طوني أن الأرقام المُتداولة غير دقيقة، ما أحالنا إلى إستنتاج أنه جرى هناك خلط بين أرقام الضحايا وأرقام المفقودين الذين لم يؤتى على ذكرهم، حسب إستناجي، إلاّ عبر ما تتناقلهُ الذاكرة الشفهيّة لشهود العيان. 

يقول طوني " بعد ليلة سادها الغموض ورؤيتنا من بيتنا في الضاحية الجنوبية قنابل مضيئة شكلت لنا علامات استفهام، بدأت الاتصالات تجري من غرفة عمليات مؤسسة الصليب الأحمر  للتّحقّق من أمر مجهول يحصل، وجهت المؤسسة سيارات  آنقاذ وجاء الجواب أنه، نعم هناك عمليات قتل تحصل وبدأت بعض النساء اللواتي استطعن النفاذ من مخارج المخيم القدوم إلى مركزنا في سبيرز والاستغاثة. بعد خروج الناجين من المجزرة دخلنا المخيم صباحاً مع صدور الصحف التي كتبت في مونشيتاتها ارقاماً متضاربة عن الضحايا، ثمة من ذكر ألف وخمسمائة ضحية وثمة من ذكر ألفان، أما مجلة الحوادث اللبنانية فقد نشرت أن ضحايا الاجتياح الإسرائيلي للبنان بلغوا ٧٩١ شهيداً بمن فيهم شهداء صبرا وشاتيلا.

أما لماذا هذا التضارب بالأرقام، فيعلّل طوني ذلك بمعلومات مؤكدة شهِد عليها سكان المنطقة، فقد كان الجيش الإسرائيلي في حصاره لبيروت وقطعه الكهرباء والماء والمواد الغذائية، قد قصف قناة مياه تمدّ منطقة طريق المطار وبئر حسن وما يسمى اليوم بالرحاب، فأحدث قصف قناة المياه فجوة عميقة في الأرض، إستغلّ مرتكبو المجزرة الفجوة لطمر عدد كبير من الجثث قبل السماح للصحافيين و سيارات الإسعاف بالدخول، وذلك لمحاولتهم طمس الكارثة قبل افتضاحها أمام الرأي العام العالمي إذ وفد صحافيون أجانب إلى المخيم. وبطبيعة الحال لم يُعرف عدد هؤلاء الضحايا وهم تصنيفاً في عداد المفقودين

يضيف طوني بهذا الصدد، أن الجيش الإسرائيلي الذي كان يتجوّل في المخيم بحثاً عن مخازن سلاح، قامت  وحدات عسكرية من الجيش اللبناني بمنعه من ذلك فحصلت مناوشات بينهم وقام الجيش الإسرائيلي بإعتراض عدد من الصحافيين، وكان أحد الصحفيين وهو إسباني أثناء تصويره لجندي إسرائيلي الذي قام بركله ودفعه إلى الخلف مع كاميرته، وقف الصحفي الاسباني وضرب الجندي بقبضته على وجهه وقال له بالانكليزية "انا إسباني لست فلسطينياً ولا يمكنك فعل ذلك معي"

أمّا العدد الغير محصيّ من مفقودي المجزرة، فبحسب طوني وكل الشهود الذين سيقوا من المخيم إلى باحة المدينة الرياضية، حيث كان عملاء الاحتلال يُوشون بالرجال ك "مخرّبين"، فقد إقتيد عدد من الرجال وقد أمام أعين الناس في شاحنات توجّهت جنوباً، فهل الأحياء منهم موجودون اليوم في المعتقلات الإسرائيلية، و هل الاموات منهم موجودون في مقابر الأرقام؟

أمر لا معطيات بشأنه.

يزيد على واقعية طوني في مقاربة الأرقام بين الضحايا والمفقودين أنه في هذه المهمّة كان مسؤولاً عن ترقيم الشهداء

وتسجيل تقرير بعمر الضحية وجنسها، حتى إذا سأل أحد أهل الضحايا عنهم فيقوم طوني بإرشادهم للتعرّف إلى الجثّة وقد تمّ تجميع الجثث في الساحة الخارجية للمخيم والمؤدية لطلعة السفارة الكويتيّة. وقد أحصى طوني ٤٣ ضحية من آل المقداد وهم لبنانيون وسلموا لعائلتهم لدفنهم، و٣٢٩ جثّة دفنوا في المقبرة الجماعية التي أنشئت على يمين مدخل شاتيلا، ومما لا ينساه طوني هنا، أن المسعف المسؤول آنذاك ملحم خلف وهو النقيب الحالي للمحامين اللبنانيين، رفض دفن الجثث في المدفن الجماعي قبل الإتيان برجل دين يقيم الصلاة ويجري دفن الشهداء حسب الشريعة الإسلامية، وهذا ما حدث.

صبرا وشاتيلا جرح سيظلّ ينكأ ضمير العالم.

الوسوم