بيروت | Clouds 28.7 c

العرب وجيرانهم الثلاثة !/ بقلم: محمد خليفة

مجلة الشراع 11 تموز 2020

"الجار قبل الدار" يقول العرب دون سواهم من أمم الأرض ، وهم وحدهم الذين ظل رسولهم الكريم محمد بن عبد الله يوصيهم بالجار ، حتى ظن صحابته أنه سيورثه. لكن بعض الجيران تختارهم الأقدار لك ، ولا تختارهم بنفسك ، وهذا حالنا نحن العرب في المربع الواقع بين غرب آسيا وشرق أفريقيا ، أو بين المتوسط شمالا ، وبحر العرب جنوبا ، والخليج العربي شرقا ، والبحر الاحمر غربا . إذ حكمت الجغرافيا علينا بالعيش بين ثلاثة جيران لا يرعون حق الجوار (!) ايران ، في الشرق ، وتركيا في الشمال ، وأثيوبيا في الغرب .

 عانى العرب من سوء صنائعهم على مر الزمان . إذ تصرف الفرس معهم بعجرفة وجشع ، لم يحترموهم ولم يحترموا حقوق الجيرة ، وسعوا دائما لغزوهم ، واحتلوا مناطق واسعة من بلادهم على الضفة الغربية للخليج ، وتمددوا غربا وشمالا ، حتى وصلوا بلاد الشام ثم مصر في أواسط القرن السادس ق . م . وعادوا في مطلع القرن السابع بعد الميلاد للتوسع وبلغوا مصر . ويواجه العرب في القرن 21 غزوا جديدا منهم ، فسيطروا على أربع عواصم باعترافهم .

 

والترك أيضا جار آخر ، وصل المنطقة متأخرا ، في أواسط القرن العاشر، فأحسن العرب استقبالهم وأدخلوهم الاسلام ، ومنحوهم أبجديتهم وحضارتهم ، ولكنهم ما لبثوا أن استغلوا ضعف العرب بعد الغزوين الصليبي والمغولي ، واستولوا على بلاد العرب كافة ، وأقاموا أمبراطوريتهم العثمانية ، ورضي العرب العيش فيها تحت راية الإسلام خمسة قرون، حتى سقطت واندثرت . ويواجه العرب اليوم انبعاثا جديدا للأحلام الطورانية التوسعية ، ينافس أحلام ايران الصفوية ، إذ بدأوا التمدد على حساب سورية والعراق وليبيا ، ووصلت بعض طلائعهم أخيرا الى الصومال واليمن ، مما زادهم حماسا .

هذه السياسة العدوانية تتنكر مرة ثانية للعرب الذين رحبوا منذ سبعينيات القرن الماضي بانفتاح تركيا عليهم ، وتفعيل علاقاتها التاريخية معهم . وحين كانت مشرفة على الافلاس باعوها البترول بأسعار خاصة وشروط ميسرة دون العالمين . وحين أدار الاوروبيون ظهورهم لتركيا ، قدم العرب لها قيادة منظمة المؤتمر الاسلامي . بينما تنكر اسلاميوها بمجرد وصولهم للسلطة للعرب وتحالفوا مع الفرس والروس ، رغم شعارات ( الأخوة الاسلامية ) و( صفر مشاكل ) ، ولم تمض سنوات حتى انتهكت جحافلهم حدود العراق وسورية ، وتجددت أطماعهم في مياه الفرات ، ثم أرسلوا قواتهم الى شرقي المتوسط بحجة حماية " أتراك طرابلس الغرب" ، وتونس ، والجزائر ، متجاهلين قواعد حسن الجوار الاسلامية والدولية .

والجار الثالث هو اثيوبيا التي كانت منطوية على ذاتها منذ قرن على الأقل تتوسل المعونات من العرب لمواجهة مجاعاتها المتتالية ، وفقرها المزمن . وبمجرد أن تحسنت أحوالها الاقتصادية ، وآنست ضعف العرب تحت ضربات أعدائهم قررت استغلال الفرصة ، كما فعل الفرس والترك ، فتجرأت على تهديد مصر والسودان في أخطر مقومات وجودهما ، ماء النيل ، وتصرفت بمكر ، واستخفاف ، واستفزاز ، متناسية ما قدمه لها العرب خلال العقود السابقة ، بل ومتناسية أن العرب قدموا لها المليارات لتمويل مشروع "سد النهضة" ذاته !

نوايا وتحركات اثيوبيا العدوانية الآن تعيد الى الذاكرة سجلا حافلا بالسياسات العدائية تجاه العرب منذ غزو أبرهة الحبشي لليمن ومكة المكرمة ، وكانوا في القرون الماضية عونا لكل الغزاة الغربيين لبلاد العرب من البرتغالي في القرن السادس عشر ، الى الغزو الاسرائيلي في القرن العشرين ، وما زالوا يحتلون اقليم أوغادين العربي الصومالي الغني بالنفط ، وظلوا حتى عام 1992 يحتلون أريتريا البلد العربي .

وهناك ما يدعو للتساؤل هل ثمة علاقة بين تحركات اثيوبيا العدوانية تجاه مصر والسودان الآن وتحركات الفرس والترك ؟ أم هي مجرد مصادفة غير موفقة ؟!

يكمن الجواب في ادراك حقائق الجغرافيا السياسية ، فالجغرافيا ليست أرضا صماء ، بل كيان حي ، له روح ومنطق وحركة . وبإسقاط هذه الحقيقة على ما تشهده المنطقة العربية من الجهات الثلاث الشرقية والغربية والشمالية سنجد ان الغزو الايراني للعراق ثم سورية ثم اليمن قد حرك شهية وشهوة الأتراك وحفزهم للتوسع وتحقيق مكاسب من أرض الجيران العرب المثخنين بالطعنات من الاعداء الدوليين الكبار خلال ستين سنة على الاقل . وعندما حقق الاتراك ايضا بعض المكاسب تحركت شهية وشهوة الأحباش لتحقيق بعض المكاسب والاطماع ، ولا سيما على صعيد مياه النيل التي تمثل شريان الحياة الأساسي لمصر شعبا ودولة ، لأن مصر هبة النيل كما قال هيرودوت قبل آلاف السنين . ومن يعد الى أرشيف الغزو البرتغالي للجنوب العربي في القرن السادس عشر يجد تعاونا بينه وبين البرتغاليين لقطع نهر النيل عن مصر وتحويله الى فلسطين التي خططوا لاعادتها دولة مسيحية !

 فلماذا نستبعد أن تكون فكرة القضاء على مصر بتحويل نهر النيل عنها ، أو السيطرة على حركة المياه فيه بين المنبع والمجرى والمصب قد عادت الى أذهان ومخططات أعداء العرب بما فيهم الاسرائيليين ، وغير الإسرائيليين ؟!

ولماذا نستبعد وجود اتصالات مباشرة بين أثيوبيا وايران ، أو بينها وبين تركيا ما دام ثمة مصلحة ..؟ لاحظوا أن ما تدبره اثيوبيا لمصر هو عين ما ترتكبه تركيا لسورية والعراق منذ خمسين سنة بواسطة نهر الفرات ، وعين ما ارتكبته تركيا قبل 70 سنة بقطع نهر قويق عن سورية الذي كان يروي مدينة حلب سابقا .

عندما كان الفرس في قديم الزمان يعبرون الخليج لغزو الجزيرة العربية من الشرق عبر العراق ، كان الاحباش يعبرون البحر الاحمر لغزو الجزيرة العربية من الغرب عبر اليمن. وكان البيزنطيون يهاجمون من الشمال بلاد الشام التي تعتبر امتدادا طبيعيا وبشريا وثقافيا لاقليم الجزيرة العربية . كان للثلاثة أمبراطورياتهم التي تسعى لضم وهضم بلاد العرب في أحشائها وصهرها ، ويبدو أن الجيران الثلاثة ما زالوا يتعاملون مع العرب بنفس الطريقة ، وما زال سلوكهم على حاله !

إن المشهد يتجدد اليوم ، بطريقة مشابهة ، وبنفس الآلية الجيو- سياسية تقريبا ، وبنفس الدوافع ، وبنفس الصورة ، فيقع العرب فريسة الأطماع والمخططات العدوانية والتوسعية لهؤلاء لجيران الذين يجمعهم الغدر، وانتهاك حرمات الجوار ، وعدم الوفاء في تعاملهم مع الجار الأكبر !

 

 

 

الوسوم