بيروت | Clouds 28.7 c

مفهوم الفتنة في الدين واللغة / بقلم الشيخ اسامة السيد

مجلة الشـراع 3 تموز 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {يُضِلُّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يُضِلُّ به إلا الفاسقين} سورة البقرة.

يخطئُ كثيرٌ من الناس في تأويل بعض نصوص القرآن والحديث فيحملونها على خلاف المراد ويتكبَّر بعضهم عند سماع النصيحة عن قبول الحق فلا يتراجع عن مقالته ويتمسك بما أدَّاه إليه رأيه السقيم وينتصر له وتراه يُناضل عنه ويرد على الناصحين له، ولا يدري أن ما هو عليه خلاف قواعد الدين ولكن سوَّلت له نفسه فظن السراب ماءً فهلك من حيث ظن أنه نجا، وكم ضلَّ ناسٌ وزاغ أقوامٌ بالتأويل الفاسد فإن من أخطر المخاطر أن يتوهَّم المرء للنصوص القرآنية خلافَ المعنى المراد فيضلّ عن سبيل الصواب وينسب إلى الدين ما ليس من الدين ويدافع عمَّا يقوله من الباطل زاعمًا أن ما يُلقيه للناس يوافق القرآن الكريم، وربما استشهد بالآيات في غير محلِّها فيقول "قرأت في كتاب الله كذا" زاعمًا أن في كلام الله دليلًا على ما يبُثُّ من غلطٍ ظنَّه حقًا لأنه تأول النصَّ على حسب اللهجة العاميَّة، والعجب كل العجب أنك تجد الواحد من هؤلاءالمفتونين لا يخوض في أمور التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو غير ذلك من الشؤون التي تقوم عليها معايش العباد لأنه لا يدري من ذلك شيئًا فيخاف أن يغلط في تلك الأمور بين يدي أهل الخبرة أما إذا ما جرى الكلام في أصول الدين وأحكام الشريعة فتراه ينبري للحديث كأنه مفتيٌ أو إمام ويظن ذلك سهلًا فيورد النصوص في غير ما نزلت له.

ليس القاتل كالنمَّام

وجديرٌ بأمثال هؤلاء أن نُذكِّرهم بالآية المذكورة أعلاه ليعرف أحدهم حدَّه فيقف عنده بدل أن يتسرَّع في القول والاعتقاد فقد قال القُرطُبي في "جامعه" في تفسيرها: "أي يُوفِّقُ ويخذل" أي أن الله يُوفِّق بعض الناس لفهم المراد من النصوص ويخذل بعضهم فيضلِّون بالتأويل الفاسد، والأمثلة على ذلك كثيرةٌ ولكنني أردت في هذا المقال أن أسلط الضوء على شرح آيتين من كتاب الله لمسيس الحاجة إلى بيان معناهما الصحيح للناس حيث يُخطئ كثيرفيحملونهما على خلاف المعنى الصحيح، وما هذا الخطأ إلا نموذجًا من نماذج التأويل الفاسد الذي أصبح سِمةَ كثيرٍ من العوامِّ بل ومن أدعياء العلم، وذلك قوله تعالى:{والفتنة أشد من القتل} سورة البقرة، وقوله تعالى في آية أخرى في سورة البقرة أيضًا: {والفتنة أكبر من القتل} فإن لهاتين الآيتين معنىً يجهله أكثر العوامِّ وبسبب هذا الجهل الفظيع بالمعنى المراد يستشهد بعضهم أحيانًا بإحدى الآيتين فيزعم أن الفتنة هنا بمعنى النميمة أي نقل القول بين الناس للإفساد هي أكبر ذنبًا وأشدُّ إثمًا من القتل وهذا غلطٌ وفسادٌ مبين وضلالٌ عن سبيل الصواب، وكيف يسوغ لقائلٍ أن يقول بأن نقل الكلام بين الناس أفظع من قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق؟!!! ونقول لمن يعتقد مثل هذا: لو كنت قاضيًا وجيء لك باثنين: أحدهما قاتل نفسٍ بغير حق والآخر نمَّام ينقل الكلام بين الناس فيوقع بينهم الخصومة بذلك فهل ترى أن وزر النَمَّام أكبر من وزر من قتل بغير حق وأنه يستحق عقوبةً أشد؟! وهل ترى أن عقوبة القاتل عدوانًا أخف من عقوبة النَمَّام؟! فسيقول لا، فإن كان لا يستقيم بالرأيالسديد أن تكون النميمة أكبر جرمًا من ذنب المعتدي بالقتل فكيف تُؤول إذًا النصَ القرآني بما لا تقبلُ أن تحكُم به بل وتُنكره لو كنت قاضيًا؟!

وبالتالي: لا يصح حمل هذين النصين على أن المراد بالفتنةِ النميمةُ، ومن حملهما على هذا المعنى كان مصادمًا لنصوص الشريعة معارضًا لما صحَّ من القرآن والحديث فقد روى البخاري عن عبد الله بن مسعودٍ قال: قلتُ يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندًا وهو خلقك. قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتُل ولدك خشية أن يأكل معك. قال: ثم أي؟ قال: أن تُزاني حليلة جارك. وأنزل الله تصديقَ قولِ النبي صلى الله عليه وسلم: {والذين لا يدعون مع الله إلهًا ءاخر ولا يقتُلون النَّفس التي حَرَّم الله إلا بالحق ولا يزنون}. 

فقد دلَّت الآية والحديث على أن أكبر الذنوب الكفر ثم قتل النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ثم الزنى، وقد شرع الله في القتل ظلمًا القِصاص ولم يشرع هذا القِصاص في النميمة فليست النميمة أكبر ولا أشد من القتل عدوانًا.

 

تفسيرٌ وبيان

وبناءً عليه فإن الفتنة المرادة بالآيتين من سورة البقرة ليست النميمةَ ولكن يظن العاميُّ أن الفتنة النميمة فقط وليس الأمر هكذا بل للفتنة معانٍ في لغة العربنذكر بعضها: جاء في "الصَّحاح" للجوهري: "الفتنة الامتحان والاختبار" وفيه: "وقال الخليل: الفَتْنُ الإحراق" وفيه: "وافْتَتَنَ الرجل وفُتِن فهو مفتون إذا أصابته فتنةٌ فذهب ماله أو عقله" وفي "المصباح المنير" للفيومي: "نَمَّ الرجل الحديث سعى به ليُوقع فتنة" وفي "لسان العرب" لابن منظور: "والفتنة إعجابك بالشىء" وفيه: "والفتنة الضلال والإثم" وعلى معنى الضَّلال أي الكفر تُحملالفتنة المذكورة في الآيتين، فإن الكفر أكبر وأشد من القتل. 

قال الطبري في "تفسيره": "يعني بقوله جل ثناؤه "والفتنة أشد من القتل"والشرك بالله أشد من القتل" وفيه: "والفتنة أكبر من القتل" أي الشرك بالله أكبر من القتل"، وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عبَّاس".

وبمثل هذا التأويل قال القرطبي والبغوي والسمعاني وعلم الهدى الماتريدي في تفاسيرهم وغيرهم، ويؤيد هذا التفسيرَ سببُ نزول الآية وهو أن ناسًا من المسلمين تعرَّضوا لمقاتلة بعض الكافرين في أول رجب ولم يدروا دخول الشهر،ورجب من الأشهر الحُرم وكان أهل الجاهلية يمتنعون عن القتال فيها وهي ذو القعدة وذو الحِجَّة والمحرَّم ورجب، وأول الأمر حرَّم الله القتال فيها ثم نُسخ التحريم وصار جائزًا (أي بالضوابط الشرعية وذلك بغير ظلم ولا تعدٍ وله أحكامٌ مقررة عند أهل العلم) فعيَّر الكفارُ المسلمين بذلك فنزلت الآية ردًا على المشركين لبيان أن ما هم عليه من الكفر والظلم أكبر من هذا القتل الذي عيّروا به المسلمين كما ذكر ذلك القرطبي في "تفسيره" وغيره.

وحيث اتضح لك هذا فإيَّاك واعتماد التأويل بمجرد الرأي البحت فإنه هلاكٌ مبين.

والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم