بيروت | Clouds 28.7 c

ارحموا صغاركم... / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 4 حزيران 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى:{واخفض جناحك للمؤمنين} سورة الحجر.

إذا ما تفكرنا بالواقع المؤلم من حولنا ونظرنا نظرة تمحيصٍ عامة في المجتمع يتضح لنا الخلل الجسيم والفجوة العارمة والتباعد الهائل في علاقات كثيرٍ من الأهل مع أولادهم، ولا سيما بعض الآباء الذين وللأسف لا يرون حاجةً لمد أبنائهم بالعطف والرحمة التي يتوق الأبناء إليها ليعيشوا حياةً مستقرةً مُشبَعةً بالأمان والوئام، بل ولعل بعض الآباء يرون أن مُبادلة أولادهم بالحنان عليهم والرأفة بهم منافٍ للرجولة وأن التربية إنما تكون في الشدة والغلظة فقط، ويتوهمون أن الشَّفقة عليهم تؤدي بهم إلى المياعة والضياع وهذا من جملة أمراض القلوب التي تفشَّت في أوطاننا بسبب الجهل الشديد، فكم من أبناء هربوا من بيوت آبائهم بسبب قسوة الآباء الشديدة فتاهوا وانحرفوا وندم أولئك الآباء بعد فوات الأوان، على أننا لا ننكر أن الولد يحتاج إلى شىءٍ من الشدة في بعض الأحيان ولكن ليس دائمًا وبشرط أن يكون ذلك ضمن حدود الحكمة، فإن التربية فنٌ يُراعى فيه جانب الشدة حينًا وجانب الرِّفق حينًا آخر لينشأ الولد بين الرغبة والرَّهبة محبًا لأبيه ولا ينسى رحمته إيَّاه في صغره ومدركًا في نفس الوقت لمعنى تلك الشدة التي كانت تتأتى منه في بعض الأحيان.
الرَّحمة بالصِّغار

 وقد وقع في الآية الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بخفض الجناح للمؤمنين وهو أمرٌ باللين والتَّواضع والرَّحمة لمن آمن. قال القُرطبي في "تفسيره": "وأصله أن الطائر إذا ضمَّ فرخه إلى نفسه بسط جناحه ثم قَبَضه على الفرخ فجعل ذلك وصفًا لتقريب الإنسان أتباعه". وخفض الجناح للمؤمنين شاملٌ للكبار والصغار والأقارب والأباعد فيدخل في ذلك الزوجة والأولاد الذكور والأناث، وكما أن البُذور إذا عُني بها خرج الزرع طيبًا فكذلك الأبناء إذا عُني بهم الاعتناء المطلوب جاء الجيل صالحًا طيبًا. ولنا برسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةٌ حسنةٌ فجديرٌ بنا أن نتأمل طرفًا من سيرته العظيمة مع أولاده وأحفاده فإنه حريٌ بالآباء أن يقتدوا بأفضل أبٍ وخير جدٍ عرفه التاريخ وهو الذي جاء بالمعيار الحقيقي للعلاقة بين الأب وأبنائه، ذلك المعيار القائم على الرحمة والرأفة والشفقة والتوجيه والرعاية، وقد اجتمعت فيه صلى الله عليه وسلم رحمة النبوة وعطف الأبوة، فكان يعتني بأولاده منذ ولادتهم ولا يهملهم أبدًا فيفرح لولادتهم سواءٌ الذكور والإناث ويختار لهم الأسماء الحسنة ويتعهدهم ويحرص على ما فيه صلاحهم ويحزن إذا مرض أحدهم، وكان يضمُّهم ويُقبِّلهم فعن أم المؤمنين عائشة قالت: "قدم ناسٌ من الأعراب (سكَّان البوادي) على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أتُقبِّلُون صِبيانكم؟ (جمع صبي.وقد رأوا المسلمين يُقبِّلون صبيانهم) فقالوا (أي المسلمون): نعم. قالوا (أي الأعراب): لكنَّا والله ما نُقبِّل. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوأَملِكُ إن كان الله نزع منكم الرَّحمة " متفقٌ عليه. أي لا أملك وضعها في قلوبكم إن كان الله نزعها من قلوبكم.

أعظم أبٍ وخير جد

وروى مسلمٌ عن أنسٍ قال: "ما رأيتُ أحدًا كان أرحم بالعِيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إبراهيم (ابن النبي صلى الله عليه وسلم) مُسترضَعًا في عوالي المدينة (قرىً في أطراف المدينة) فكان ينطلق ونحن معه فيدخُلُ البيت وكان ظئره (الظئر زوج المرضعة لولد غيرها) قَينًا (حدَّادًا) فيأخذه (أي يأخذ ابنه إبراهيم) فيُقبِّله ثم يرجع" وحين مات إبراهيم المذكور وكان قد بلغ نحو سنتين من عمره بكى النبي صلى الله عليه وسلم لموته وحزن عليه وقال: "يا إبراهيم لولا أنه أمرٌ حقٌ ووعدٌ صدقٌ وأن آخرنا سيلحق بأولنا لحزنَّا عليك حزنًا هو أشد من هذا وإنَّا بك لمحزونون تبكي العين ويحزن القلب ولا نقول ما يُسخط الرَّب". وفي "سنن ابن ماجه" من طريق أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "لا تُدرجوه (تلفُّوه وتُغطُّوه) في أكفانه حتى أنظر إليه فأتاه فانكب عليه وبكى".

وحيث علمت هذا فتأمل أيضًا كيف كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أحفاده فعن بُريدَةَ قال: "كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطُب فجاء الحسن والحسين عليهما قميصَان أحمرَان يعثُران فيهما فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فقطع كلامه فحملهما ثم عاد إلى المنبر". وفي الموطأ للإمام مالك عن قَتَادة السُّلمي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يُصلي وهو حاملٌ أُمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا سجد وضَعها وإذا قام حملها".      

فانظر إلى عظيم شفقة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم واحمل نفسك وحُثَّ غيرك من أهلك وإخوانك وجيرانك على الاقتداء به في معاملة العِيال فإن التواضع لهم ليس ضعفَ قلبٍ، وليكن لكلٍ منهم حظٌ من عطفك ورعايتك فإن لطريقة تعامل الآباء مع الأبناء تأثيرا عظيما على نمط حياتهم في المستقبل، فجديرٌ أن تمتلأ عطفًا ورحمةً فقد روى الترمذي عن أنسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "ليس منَّا (أي ليس متبعًا لنا اتِّباعًا كاملًا) من لم يرحم صغيرنا". وبالتالي فلا ينبغي أن يُسيء الوالد تربية ولده من حيث لا يدري بالتمادي في الغلظة والخُشونة، فكم من الآباء عاملوا أولادهم الصِّغار بالشدة فإذا بأولادهم ينشأون عاقِّين فاسدين لا يُقرُّون لوالديهم بالفضل ولا يتذكرون من سيرتهم إلا الفظاظة التي عاملوهم بها فينكسر خاطر الآباء، ولسنا نُبرر لبعض الأبناء مثل هذا التصرُّف ولكن جديرٌ بنا أن ننظر في الأسباب التي تؤدي إلى ذلك لتجنُّبها فإنها كثيرًا ما ترجع إلى سوء التربية في الصِّغر التي اعتادها كثيرٌ من الآباء الذين يُمارسون تجاه أولادهم الظلم والقسوة من حيث يظنون أن هذه هي الطريقة المثلى في التربية وهذا غلطٌ شنيع فما أحوجنا إلى الاستفادة من التعاليم النبوية والاقتباس من سيرة خير الخلق فإنه لا أدب فوق أدب رسول الله ولا طريقة أمثل من طريقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والحمد لله أولًا وآخرا.           

الوسوم