بيروت | Clouds 28.7 c

مواجهة المصاعب بالصبر والرضا بقضاء الله / بقلم الشيخ أسامة السيِّد

مجلة الشراع 12 ايار 2020

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {ما أصاب من مصيبةٍ في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتابٍ من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يحب كل مُختالٍ فخور} سورة الحديد.

  كثيرًا ما يتعرَّض الإنسان في حياته لمصائب ومتاعب ونكباتٍ تُكدِّر صفوه وتُقلق فؤاده وتجعله في حيرةٍ من أمره، ولربما أثَّرت على صحته فتكون سببًا في هجوم الأمراض على بدنه، وتراه بعد ذلك يحيا منغَّصًا كئيبًا حزينًا لا يطيبُ له عيشٌ ولا يهنأ له بالٌ ولا يزال يفكر فيما دهَمه من هموم الدنيا وتضيق به الأرض فلا يقرُّ له قرارٌ وهكذا أغلب الناس، وليس أحدٌ منَّا إلا وهو يفرح بالنعمة ويحزن إذا مسَّه الضُّر ولكن إنما يُذم من الحزن الجزعُ المنافي للصبر ويُذم من الفرح المطغِي الملهي عن شكر الله، فكم يعترض ناسٌ بسبب البلاء على ربهم فيخرجون بذلك من ملة المؤمنين وكم يفرح ناسٌ بالنعم فرحًا يحملهم على الدخول فيما حرَّم الله! وكلا الأمرين مذمومٌ قبيحٌ، وعلى العاقل أن يكون مستحضرا دوما أنه لا رادَّ لمشيئة الله وأن ليس كلُّ مُرادٍ يُنال، ولا ينبغي أن تُطاع النفس في كل ما تشتهي فنحن نسعى ونعمل بالأسباب ولكننا لم نؤت علم العواقب وإنما الأمر كله لله فمن صبر ورضي كان مأجورًا وتقدير الله نافذٌ ومن اعترض وكفر كان آثمًا مستحقًا للعذاب الشديد ومشيئة الله نافذةٌ.

سلِّم أمرَك لله

وجديرٌ بمن أيقن بهذا أن يخضع لله العظيم وأن لا ينظر إلى الأمور نظرةً سطحيةً بل يتعمَّق في فهم ما يجري حوله وفي نفسه وأهله من أحداثٍ تكرهها النفس بحسب العادة، فإنه إن فعل ذلك قد تتكشَّف له حكمٌ عظيمة كان غافلًا عنها لولا ما تعرَّض له من المحن، وقد قال ربنا تعالى في سورة البقرة:{وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تُحبوا شيئًا وهو شرٌ لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} قال علم الهدى الماتريدي في "تأويلاته": "ويحتمل هذا في كل أمرٍ يحب الرجل في الابتداء ويكون عاقبته شرًا له ويكره أمرًا فيكون عاقبته خيرًا له هذا لجهلنا بعواقب الأمور وخواتيمها ليُعلم أن ليس إلينا من التدبير في شىء" ثم قال: "وقوله: "والله يعلم وأنتم لا تعلمون" أي ويعلم ما هو خيرٌ لكم في العواقب مما هو شرٌ لكم وأنتم لا تعلمون". وقديمًا قيل:

خَفْ إذا ما بِتَّ ترجو                              وارجُ إن أصبحتَ خائفْ

كم أتى الدهرُ بعسرٍ                               فيه لله لطائف

وحريٌ بالعاقل أن يكون القرآنُ إمامَه فيرجع إليه ويهتدي بهديه ويعمل بما يُرشد إليه، ومن تأمل قوله تعالى في الآيتين أول المقال فحقيقٌ به أن يرضى عن الله بمعنى التسليم له وترك الاعتراض عليه، فقد أخبر ربنا أنه ما تكون من مصيبةٍ في الأرض من الجدب وآفات الزرع والثمار أو الزلازل وغير ذلك وما يُصيب الأنفس من الأمراض والوباء وموت الأبناء والأحفاد إلا كان مكتوبًا في اللوح المحفوظ، واللوح هذا فوق السماء السابعة كُتبت فيه مقادير الخلائق إلى يوم القيامة، ومعنى قوله "من قبل أن نبرأها" أي من قبل أن نخلق الأنفس، وليس تقدير ذلك عسيرًا على الله فإن الله لا يعجزه شىء.  

ثم بيَّن الحكمة فيه بقوله: {لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما ءاتاكم والله لا يُحب كل مختالٍ فخُور} أي كيلا تحزنوا حزنًا يُطغيكم فيحملكم على التسخُّط على الله بسبب ما فاتكم من الدنيا وسعتها أو من العافية وصحَّتها ولا تفرحوا فرح المختال أي المتكبِّر الذي يفخر على الناس فيرى نفسه فوقهم بما حاز من حطام الدنيا.

ما يصرفه الله أكبر

فمن علم أن كل شىءٍ مقدَّرٌ مكتوبٌ عند الله ولا رادَّ لذلك قلَّتْ مآسيه على الفائت من دنياه وقلَّت أفراحه بالآتي من متاعها، لأن من أيقن أنَّ ما عنده مفقودٌ لا محالة إذ كل ما في الدنيا يصير آخر الأمر إلى الفناء وعلم أن ما شاء الله له من الرزق واصلٌ إليه لا يفُوته بحالٍ لم يتفاقم جزعه عند فقد ما بيده ولم يبطَر عند وصول النعمة إليه لأنه وطَّن نفسه على ذلك، مع العلم أن ما يصرفُه الله تعالى عنا أكبر بكثيرٍ مما نبتلى به في دُنيانا، ومصداق هذا في القرآن الكريم في قوله تعالى: {ولنبلونكم بشىءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين} سورة البقرة. وقوله "بشىءٍ" أي بقليل من كل واحدة من هذه البلايا وقلَّل إيذانًا بأن كل بلاءٍ أصاب المؤمن فإن فوقه ما هو أكبر منه وإنما يصرفه الله عنا برحمته ولو شاء ربنا لخسف بنا الأرض أو أطبق علينا الجبال، وقد جاء الإعلام بوقوع البلواء قبل حُصولها ليوطِّن المؤمن نفسه عليها فلا يجزع إذا حلَّت بساحته، فمن طَرَقَه المرض أو ذهب ماله أو أُخرج من بلده أو فقد عزيزًا فليوطِّد قلبه على الرضا بقضاء الله بدل الجزع والاعتراض على من يُدبِّر الأمر وهو الله سبحانه وتعالى، ومن تذكَّر حلاوة ثمرة الصبر ونور الأجر وزوال المحن وأيقن بأن الله لم يخلق شيئًا إلا لحكمةٍ سواء ظهرت لنا أم لا هان عليه الأمر وعاش مطمئن البال فلم يغترَّ برخاءٍ ولم يتسخَّط عند بلاء، ولقد قيل:

ثمانيةٌ تجري على الناس كلهم                    ولا بد للإنسان يلقى الثمانية      

سرورٌ وحزنٌ واجتماعٌ وفرقةٌ                     وعسرٌ ويسرٌ ثم سُقمٌ وعافية

وحيث رأيتَ الدنيا أطوارًا لا تبقى على حال ولا تصفو مشاربها لأحدٍ وعلمتَ أنك وما تملك مملوكٌ لله فلا تُكثر لهمك ولا يُلهك الغمُّ عن طاعة الله، وتذكَّر كم منَّ اللهُ عليك بنعمٍ لا تُحصى فلا ينبغي أن تنسى ذلك فإن العاقل من عاش عمره بين صبرٍ وشكرٍ لتكون عاقبته الرضا في الدنيا والفوز في الآخرة.

والحمد لله أولًا وآخرا.    

الوسوم