بيروت | Clouds 28.7 c

رمضان مِرقاة الفلاح وشهر الخيرات والمبرات / بقلم الشيخ أسامة السيد

رمضان مِرقاة الفلاح وشهر الخيرات والمبرات

بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 25 نيسان 2020

 

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {يا أيها الذين ءامنوا كُتب عليكم الصِّيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} سورة البقرة. وقال تعالى أيضًا:{شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرءان هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفُرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه} سورة البقرة.

ها هو شهر رمضان المبارك يعود محمودًا فيُسعد النفوس بإهلال هلاله ويعرف العارفون بركة كماله، وها هي أيَّامه العطرة تُظلِّلنا فتغمر أفئدة المؤمنين بالسكينة حيث لا تزال تلك الأفئدة تحنُّ وتشتاق إلى هذا الشهر المبارك من عامٍ لعامٍ، فطوبى لمن جعل الله له من فضل هذا الشهر نصيبًا فَقَرَن له فيه صومه بالقَبُول فأدرك بُغيته ونجح في نيل المأمول ورقَّاه الله إلى مراتب المقربين. 

فما أجمل ساعات رمضان وما أحيلا الأنس فيها وما أروع الغداة والعشي في ربوع أفضل الشهور، لقد عادت فيه السعود وجاء مبشرًا بالجدِّ في نيل المقصود فما أعظم الفضائل التي جعلها ربنا في هذا الموسم العظيم، فالصوم صفاء للروح وتدريبٌ على كمال التسليم لله، ومن شواهد أهميته أن الله قد شَرَعه في الأمم السابقة كما شرعَه لنا بدليل الآية أعلاه، ولكن جعل الله صوم الأمم السابقة في زمنٍ معيَّنٍ من السنة غير رمضان وجعل الله صومنا في رمضان فهنيئًا لمن أسعده الله فيه بطاعته سعادةً يحظى فيها بأصناف الخيرات فتزكو أعماله وتُغفر زلَّاته.

رمضان شهر الغفران

قد روى البيهقي عن كعب بن عُجْرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن جبريل عَرَض (ظَهَر) لي فقال: بَعُدَ من أدرك رمضان فلم يُغفر له" أي بَعُد عن الخير أي فاته خيرٌ عظيم بتقصيره حيث لم يغتنم رمضان ليُغفر له. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدَّم من ذنبه" رواه البخاري. ومعنى "إيمانًا" تصديقًا بأن صومه حقٌ أي فريضةٌ من الله مع التصديق بما ورد فيه من الثواب، ومعنى "احتسابًا" طلبًا للأجر من الله وذلك بأن يُخلص الصوم فيه لله وحده. ومن أيقن هذا تلقَّى زمن الصوم بطيب نفسٍ وأما من استخف برمضان أو سخر به أو سبَّه فإنه ليس بمؤمنٍ.

ومن لم يوطِّد نفسه على الاستفادة من بركات هذا الشهر ففي أي غفلةٍ يعيش؟ وأي فضلٍ جليلٍ يفُوته؟ فيا ضيعان الساعات والأنفاس، وما أحوج الواحد منَّا إلى الحسنات ليثقُل بها ميزانه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

وحيث ولجنا في هذا الشهر وبتنا نعيش أوقاته فجديرٌ بنا أن نتوب فيه إلى الله تعالى وأن نتخلَّى عن الاغترار بالدنيا التي ما زالت تفتن زيدًا وعمرًا عسى أن تغرب شمس رمضان وقد محيت عنا الأوزار وتشرق شمس شوال على صفحةٍ تكون بداية لمرحلةٍ حياتية جديدةٍ عامرةٍ بطاعة الرحمن وعصيان الشيطان وقد طرح المسيء منا عن عاتقه ثوب الكسل وسار قُدمًا في سبيل الخير قبل أن يولِّي زمانه وتنقضي أيامه فإن العمر يسيرٌ وأيام الدنيا وإن طالت قِصارٌ وأنفاس الإنسان خُطاه إلى أجله.

يُجازى الصائمون إذا استقاموا                            بدار الخُلد والحور الملاح

وبالغفران من ربٍ رحيمٍ                                 وبالفوز الكبير بلا بَراح

فيا أحبابنا اجتهدوا وجدّوا                              لهذا الشهر من قبل الرَّواح

عسى الرحمن أن يمحو ذُنوبي                           ويغفر زلَّتي قبل افتضاحي  

رمضان مرقاة الفلاح

فاستفق يا غافل من سُبَاتِك وأصلح من حالك واعرف قيمة هذه الأيام التي تُمضيها فلا تقطعها باللهو واللعب، فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فُتِّحت أبواب الجنة وغُلِّقت أبواب النار وصُفدت الشياطين" رواه مسلم. فتأمل هذا الشرف الجليل لتُدرك عظمة شهرٍ فضَّله الله على سائر شهور العام. قال النووي في "شرح صحيح مسلم" نقلاً عن القاضي عياض: "يحتمل أنه على ظاهره وحقيقته، وأن تفتيح أبواب الجنة وتغليق أبواب جهنم وتصفيد الشياطين علامة لدخول الشهر وتعظيم لحرمته ويكون التصفيد ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين والتهويش عليهم، ويحتمل أن يكون المراد المجاز ويكون إشارةً إلى كثرة الثواب والعفو وأن الشياطين يقل إغواؤهم وإيذاؤهم ليصيروا  كالمصفّدين".

فرمضان مرقاة إلى المراتب الشريفة وسبيل لإصلاح النفس وحملها على الاستقامة ومن كرُمت عليه نفسه اهتم بما يُصلحها صيانةً لها من عذاب النيران وسعيًا لدخول الجنان. 

وفي هذا الحديث تحفيزٌ عظيم للمؤمنين فإذا قلَّ إغواء الشياطين في هذا الشهر وكان ما علمت من حُرمته فليس من السداد أن تركن إلى الكسل وتقصُر همتك بينما يفوز الفائزون بما قدَّموا من سعيٍ صالح. فينبغي إذًا أن تتيقَّظ قلوبنا من الغفلة وأن تقوى إرادتُنا في تعويد أجسامنا على الصبر والثبات على الطاعة وتعريفها بنعم الله الدينية والدنيوية الكثيرة وتربية مشاعر الود والرحمة بين المؤمنين، فإن نازعتك نفسك المجون واللهو في المنتديات التي يدعو إليها أصحاب القلوب الميتة في ليالي رمضان المباركة فاقهرها بلزوم تقوى الله فإن مخالفة النفس شفاؤها، واثبت على ذلك لتصير منقادةً لك فلا تملُّ ولا تسأمُ بعد ذلك من الإكثار من الصالحات فإن النفس الأمَّارة بالسوء كالدَّابة إن ركبتها حملتك وإن ركبتك قتلتك. فإيَّاك إذًا أن يكون بطنُك أكبرَ همك أو أن تكون شهوتك هي الغالبة واستعن على الثبات بالنظر في سير الصالحين فقد جاء في كتاب "آداب الشافعي ومناقبه" لابن أبي حاتم عن الربيع بن سليمان المرادي قال: "كان الشافعي يختم القرآن في شهر رمضان ستين مرةً كل ذلك في صلاة" معناه يكثر من الصلاة حتى يختم القرآن في صلواته ستين مرة وسِرُّ ذلك أن الله بارك له في وقته فاتَّسع لذلك.

وأين نحن من أمثال الشافعي الذين عرفوا قدرَ رمضان وسِرَّ أيامه ولياليه فاتخذوه موسمًا لمضاعفة الأجور استعدادًا ليوم يفوز فيه الصالحون ويخسر فيه المُبطلون. فإن الأيام والليالي خزائن للناس ممتلئةٌ بما خزنوه فيها من خيرٍ أو شرٍ وستفتح هذه الخزائن لأهلها يوم القيامة فيجزون بما عملوا.

 والحمد لله أولًا وآخرا.   

الوسوم