بيروت | Clouds 28.7 c

أضواء على ليلة النصف من شعبان / بقلم الشيخ أسامة السيد

أضواء على ليلة النصف من شعبان

بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 10 نيسان 2020

 

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

يقول الله تعالى في القرءان الكريم: {الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيّكم أحسن عملًا وهو العزيز الغفور} سورة الملك.

ورُوي عن سيدنا علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كانت ليلة النصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها" رواه ابن ماجه.

لقد خلق الله تعالى الدنيا وجعلها مزرعة الآخرة وخلق الآخرة وجعلها منتهى الأمر، وما الدنيا في حقيقة الأمر إلا دار اختبار وامتحان. قال السمعاني في تفسيره: "وقوله تعالى "ليبلوكم أيكم أحسن عملا" أي ليختبركم فيظهر منكم أعمالكم الحسنة وأعمالكم السيئة ويُجازيكم عليها".

ثم إن الحكمة تقتضي أن يُراجع المرء نفسه وينظر ماذا قدَّم وماذا أخَّر فيتمادى في الخير ويقصُر عن الشر، ويغتنم فُرص العمر التي دلَّ عليها معلمُ الناسِ الخيرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقد جعل اللهُ في حياة الناس مواسمَ تُضاعف فيها الأجور وجعل فيها أسرارًا ونفحاتٍ وبركاتٍ ينبغي اغتنامها والاعتناء بشأنها ومن ذلك ليلة النصف من شعبان ويومها.

فضلٌ عظيم

هذا وإن مما يُقوي الرغبةَ في الاهتمام لأمر ليلة النصف من شعبان ما جاء في سنن ابن ماجه وغيره عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ليطَّلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن". وهذا فيه تخصيص لشأن هذه الليلة بما جعل الله فيها من الرحمة بمغفرة ذنوب أهل الإيمان حيث استثنى المشركين، وكذا المشاحن وإن كان مسلما وهو الذي بينه وبين أخيه المسلم عداوة لأجل الدنيا، فكأنه يقال لنا: يا عبادي اغتنموا هذه الليلة وهذا اليوم بالطاعة والخير. وفي سنن الترمذي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يغفر في ليلة النصف من شعبان لأكثر من عددِ شعرِ غنم ِكَلْب" وكَلْبٌ قبيلةٌ عربية كانت مشهورة بكثرة الغَنَم.

فالاعتناء إذًا بشأن ليلة النصف من شعبان بإحيائها بأنواع العبادات من أنفع الأعمال وأجلِّ الطاعات وقد حث الشرع الشريف على الإكثار من الخير قال تعالى: {وما تُقدموا لأنفسكم من خيرٍ تجدوه عند الله هو خيرًا وأعظم أجرا} سورة المزَّمل. قال الخازن في "لباب التأويل": "تجدوه عند الله أي ثوابه وأجره هو خيرًا وأعظم أجرًا يعني أن الذي قدمتم لأنفسكم خير من الذي أخرتموه ولم تقدموه".

وحيث عُلم هذا تبين أن ما درج عليه المسلمون منذ زمن بعيد من الاجتماع في ليلة النصف من شعبان لإحيائها بما تيسر لهم من أصناف العبادات والقُرُبات هو عملٌ طيب حسنٌ موافق للشرع.

مشيئة الله لا تتغير

لكننا مع هذا نؤكد على موافقة الشرع في القول والفعل، وذلك أنه قد جرت العادة في بعض البلدان أن يجتمع الناس في ليلة النصف من شعبان لقراءة دعاء ينسبه البعض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إلى بعض الصحابة أو التابعين، ولكنه غير ثابت عن أحد من المعتبرين كما أشار إلى ذلك البيهقي في كتاب "القدر"، وهو قولهم: "اللهم إن كنتَ كتبتني عندك في أم الكتاب شقيا أو محروما أو مطرودا أو مقتَّرا عليَّ في الرزق فامح اللهم شقاوتي وحرماني وطردي وإقتار رزقي واكتبني عندك من السعداء".

وهذا الكلام لم يثبت عن أحد ممن يُعتد بقوله، ومن حمله على ظاهره فاعتقد أن مشيئة الله تتغير فقد كذَّب الدين وردَّ الشرع ونقض قولَ الله تعالى: {ما يُبدل القول لديّ} سورة ق. والمعنى: "ما شاء الله كان لا يتغير". قال ابن زَمَنَين في " تفسير القرءان العزيز": "أي قد قضيتُ ما أنا قاض". وروى مسلم عن ثوبان عن نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: "يا محمد إني إذا قضيتُ قضاءً فإنه لا يُردّ" ولو كانت مشيئة الله تعالى تتغير لأحد لتغيرت لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روى ابن أبي حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سألتُ ربي أربعًا فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة، سألتُه أن لا يُكْفِرَ أمتي جملةً فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُهلِكهم بما أهلك به الأممَ قبلهم فأعطانيها، وسألتُه أن لا يُظهر عليهم عدوا من غيرهم فيستأصلهم فأعطانيها، وسألتُه أن لا يجعل بأسَهم بينهم فمنعنيها". فقد استجاب الله تعالى لنبيه فيما شاء فلا تكفر أمته صلى الله عليه وسلم جملةً ولكن قد يكفر بعض الأفراد، ولا يحصل هلاكٌ شامل لكل الأمة بنحو خسفٍ أو طوفان كما حل بالأمم السابقة ولكن قد يهلك بعض الأفراد بنحو ريحٍ أو زلزالٍ أو نحو ذلك، ولا يتسلط عليهم عدو يستأصلهم عن آخرهم ولكن قد ينال العدو من بعضهم ويقتل أعدادًا منهم ويغتصب أراضيهم والتاريخ حافلٌ بذلك ولكن ما استطاع أحدٌ إبادة الأمة إبادةً تامة ولكن شاء الله أن يحصل اقتتال بين أفراد هذه الأمة فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الدعوة الرابعة فمنعنيها وهذا يفيد أن مشيئة الله تعالى لا يطرأ  عليها التغير ولا التبدل إذ التغير من صفات المخلوقين بل هو أقوى أدلة الحدوث لأن المتغير محتاجٌ لمن غيَّره والمحتاج عاجزٌ ولا تصح الألوهية للعاجز. 

 فإن سأل سائل ما معنى قول الله عزّ وجل: {يمحو الله ما يشاء ويُثبت وعنده أم الكتاب} سورة الرعد. فالجواب: أن الله يمحو ما يشاء من القرآن فيرفع حكمه أي ينسخه، ويُثبت ما يشاء من القرآن فلا ينسخه" كما قاله النسفي في "تفسيره". ويؤيد هذا المعنى قولُه تعالى: {ما ننسخ من آيةٍ أو نُنسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها} سورة البقرة. والنسخ هو رفع حكمٍ شرعي سابق بحكم شرعي لاحق، وذلك أنه كان يُوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم بحكم فيُعمل به مدةً ثم يُوحى إليه صلى الله عليه وسلم بحكمٍ آخر ينسخ الحكم الأول، وهذا في بعض الأحكام، ولا شك أن في ذلك حكمة يعلمها الله تختلف باختلاف الأزمان وأحوال الناس، على أن النسخ مختص بالأحكام فلا نسخ في العقائد ولا نسخ بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

فليعلم هذا والحذر من نسبة تغير المشيئة إلى ربنا تعالى.

 والحمد لله أولًا وآخرا.

الوسوم