بيروت | Clouds 28.7 c

صدمة " فيروس " كورونا / بقلم السيد صادق الموسوي

صدمة " فيروس " كورونا

 بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 30 آذار 2020

لقد بدأت رحلة الإنسان الأول إلى الوجود من تراب جُبل بماء فصار طيناً لازباً ثم تحوّل صلصالاً من حمأٍ مسنون ذا ريحة نتة، ثم تحوّل جسماً هشّاً لا قيمة له أبداً؛ لكن هذا الموجود الوضيع نفخ الله فيه من روحه فكان موجوداً ذا حياة وحركة، وسما موقعه حين باهى بخلقه خالقه فأمر الملائكة وهم أقرب الخلق حينئذٍ إليه بأن يقعوا جميعاً لهذا المخلوق الجديد ساجدين، ثم جعل الله هذا المخلوق موضعاً لعلمه فعلّمه الأسماء كلها وأطلعه على حقائق الكون بالتفصيل والذي عجز الملائكة المقربون عن معرفتها، ثم خلق له من نفسه زوجة وشريكاً في الحياة وقال لهما ادخلا الجنة ( وكلا منها حيث شئتما رغداً )، ولكما فيها كل متطلبات الحياة والسعادة والهناء فلا جوع ولا ظمأ ولا سقم ولا شقاء بل خلود وبقاء، لكن الخالق طلب من مخلوقه هذا مقابل كل تلك النعم الكثيرة المباحة له والثمار اللذيذة المتاحة له أن لا يقرب من شجرة واحدة فقط من بين كل أشجار الجنة وما أكثرها، وأن يمتنع من أكل ثمرة واحدة من بين جميع أنواع الثمار المتنوعة، لأنه أراد لهذا الإنسان الذي خُلق من " أديم الأرض " فسُمّي آدم، والذي نفخ الله من روحه فيه فتفضل على الملائكة حَمَلة عرشه، أن يتعلم معنى الطاعة بالحذر عن شيء منهيّ عنه، لأن المتنعم بكافة الرغائب والغارق في جميع الملذات والحاصل على كل ما يشتهي لا يمكنه معرفة قيمة ما فيه إلاً بالتحذر عن شيء والانتهاء عن تناول أمر، لكن آدم سقط في الإمتحان الأول وتسبب ذلك في الحرمان من العيش الرغيد دون عناء والحياة الهنيئة دون تعب، فصار لزاماً عليه العمل الشاقّ بحثاً عن لقمة يأكلها، وبذل الجهد لنيل مبتغاه في الحياة الدنيا، فتارة ينجح في أمره ومرات يصيبه الفشل.

توالد آدم وحواء اللذان عاشا من قبل رغد العيش في الجنة وذاقا صعوبة الحصول على مستلزمات الحياة على الأرض ، وانقسمت ذريتهما بين مصدق لما رواه الوالدان عن آثار المعصية ونتائج الخروج عن الطاعة وبين غافل مُلتهٍ بشؤون الحياة اليومية وجاهد في كسب بُغيته بعناء، وتوالت السنون والعقود والقرون، وازداد تعداد البشر، وظهر الفساد بين الأمم وتغلبت روح الشر والرغبة في التسلط والهيمنة على أشخاص " فتنمرد " البعض و " تفرعن " آخرون باستضعاف إخوة لهم في الإنسانية وقهر الجماعة من بني جنسهم والعمل على استعبادهم واستثمارهم لأجل تنفيذ شهواتهم وبلوغ مبتغى أهوائهم، حتى وصل الأمر بهم إلى الإدّعاء مرة:

 ( أنا أُحيي وأُميت )

ومرة أخرى بالقول:

( ما علمت لكم من إله غيري )

 وقد استند هذا المستكبر لادّعائه الإلهية بالقول: ( أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار من تحتي أفلا تبصرون) كوسيلة لإقناع عامة الناس، بل جعل من المظهر البسيط للدعاة إلى الهدى، وافتقاد الرسل لزخرفة الدنيا، وفقر الرافضين للتفضّل على عباد الله ظلماً، والتعالي على الناس تكبراً، دليلاً على بطلان دعواهم الحق، وذريعة لرفض مطلبهم الصواب، بل وصف الجبار الظالم منطق الهدى سحراً لما عجز عن مواجهته، واتهم الذي طالبه بالتخلي عن استعباد البشر بالجنون، واستهان بالمتجاوبين مع دعوة الحق بداية قائلاً: ( إنهم شرذمة قليلون )، وأعطى لحركة الأنبياء طابعاً شخصياً بالقول: ( إنهم لنا لغائظون )، وقام " المُبخّرون " للسلطان بتحريضه على الرسل والمؤمنين معه ( وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك )، ولمّا انقلبت النار الحارقة برداً وسلاماً على إبراهيم أمام أعين عموم المجتمعين، ولمّا بطل السحر العظيم الذي أرهب الناس المحتشدين وتحولت العصا الخشبية بيد موسى ثعباناً والتهم حبال وعصيّ السحرة المَهَرة وآمن الذين كانوا الأمل الأخير لفرعون، وبدل أن يُذعن " المتفرعن"  للمنطق الحق ويتخلى عن استعباد وقهر عباد الله فإنه عمل على تشويه صورة السَّحَرة العاجزين عن مقابلة المعجزة والتغطية على فشل الحيلة على الجموع بالزعم أن موسى هو كبيرهم الذي علّمهم السحر، وقال للذين آمنوا بمنطق موسى الحق مهدداً إياهم بأشدّ العذاب:

 ( آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى )

 وأمام الفوضى التي عمّت صفوف المحيطين به والذين حذّروه من عواقب الفشل الذريع بفرض الرعب الشامل على عموم الناس قال:

 ( سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون )

ولقد أحاط بهؤلاء الجبابرة بعض الإنتهازيين من ذوي الدهاء في الرأي والثراء في المال والإطلاع في الدين المنسلخين من قواعد الإيمان وأعانوا الطغاة في الإستكبار بآرائهم ودهائهم والتعمية على الناس وسهلوا لهم السبيل كهامان في بلاط فرعون، وآخرون انمسخت طبيعتهم لمّا وصلوا للثروة واستجد بهم الغنى ونسوا فقرهم المدقع السابق فلحقوا بركب الجبابرة وصاروا من حاشية السلاطين، وهؤلاء شملهم رُسُل الله في الدعوة إلى الهدى والتوقف عن إعانة المستكبرين والتخلي عن مصّ دماء الفقراء.

 ولقد جاء في القرآن الكريم إلى جانب فرعون وهامان ذكر قارون:

 ( ولقد أرسلنا موسى بآياتنا وسلطان مبين، الى فرعون وهامان وقارون )

 وقارون هذا كان وضعه الإقتصادي كباقي بني إسرائيل المضطهدين، لكنه جعل نفسه في عداد "المُبخّرين" لسلطة فرعون والمتزلفين للطاغية فكسب ثروة هائلة حيث وصف الله سبحانه حاله بالقول:

 ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة )، وبماله المستجد استعبد كثيرين من الناس، وهو لم يبالِ بنصيحة فومه الذين قالوا له:

 ( لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين، وابتَغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تَبغِ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين )، بل كان ردّه على تلك النصائح: ( إنما أُوتيته على علم عندي ) ناسباً ثراءه الفاحش إلى حنكته الشخصية ناكراً أن الله سبحانه قد قدّر له ذلك ( آتيناه من الكنوز )، كل ذلك ليتهرب من بذل شيء من ماله على الفقراء، متناسياً ما أصاب قبله من الظالمين ( أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشدّ منه قوة وأكثر جمعاً ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون )

 وحال قارون هذه جعلت العامة يغبطونه على ثرائه الفاحش الذي تباهى به أمام الفقراء ( فخرج على قومه في زينته قال: الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم )، لكن عذاب الله شمله بالخسف ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين  )، وعنئذٍ تنبّه المغترّون بثراء قارون ( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين )، وكان الغرق في البحر أخر أمر فرعون كما نهاية النمرود عبر ذبابة.

أما صدمة كورونا اليوم فأظنه تكراراً لما أصاب قوم موسى من قبل لما رضخوا للطاغية، وسلّموا للجبار وانقادوا للمستكبر حيث يذكر الله سبحانه في كتابه: ( فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصّلات )، ولمّا توالت المصائب وعمّ البلاء ودبّ الذعر في الناس وشاع القحط في البلاد، وانتشر العفن في الشوارع والأزقة، وعجز المستكبرون وبكل الوسائل عن السيطرة على الأمور ومعالجة الازمة المستفحلة، عندئذ اضطر الذي ادّعى بالامس أنه هو الإله المهيمن على الكون أن يرضخ لمن كذّبه من قبل ويستجيب لمطلبه الوحيد منذ بداية الدعوة وهو ( أرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم )، ولم يجد " المتفرعن " بدّاً من القول: ( يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنّا الرّجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ).

أما اليوم،

فلقد شاهدنا استهانة العالم بما أصاب مدينة " ووهان " في الصين وحسب الأمر محصوراً بمكن، ثم كانت الشماتة " لما انتشر كورونا في إيران، وظن دول الغرب " المتمدن " أنها بمنأى عن البلاء، وسخر جونسون البريطاني بالفيروس، وطمأن ترامب الأمريكيين بأن البلاد مصونة....

 لكن سرعان ما عم الابتلاء وشمل الوباء العالم دون استثناء وأصاب الفيروس الساخرين بالأمس واقتحم قصور الأباطرة وفرض الحجر على الملوك والسلاطين وانتحر وزراء رعباً من تفاعلات الأزمة، وتفكك الإتحاد الأوروبي خلال أيام وصار همَ كل دولة بحالها دون الأعضاء الآخرين، وأخيراً فاق عدد المصابين عند الأمريكيين على الصينيين، وبانت فجأة عورات بلاد العم سام وهشاشة النظام الصحي أمام اكتساح فيروس، وانفضحت بسرعة حقائق الأمور وانكشف ضعف حيلة الذين كانوا يستكبرون ويستضعفون ويفخرون ويتباهون ويتبجحون ويتنطحون ويهددون وصار الفيروس الذي لم يعرف حتى اليوم كل العلماء المتخصصون جنسه وحقيقته وحدود توسعه وطريقة انتشاره، ويحتار العالم " المتحضر " الذي سخّر الفضاء ويبحث عن العيش في سائر الكواكب في وقف اجتياح بلاء وإبطاء سرعة انتشار وباء وحصر دائرة إصاباته، وفي بضع أيام تضعضع النظام العالمي المستحكم وارتبك الإقتصاد الدولي، وتعطلت دورة الحياة، وخاف زعماء أقوى الدول المحاطون بأمهر الأطباء الأخصائيين من التلاقي في مكان فعقد قادة مجموعة العشرين قمتهم عن بُعد، وأخيرا تجنب الأحباء الإقتراب والتصافح خشية الإصابة، وأغلق أغلب البشرية عليه بابه وصار محبوساً في بيته إلى ما شاء الله تحسباً من العدوى.

وأمام هول المصاب

 وتمدد الوباء

 وتفشي الفيروس

 وتزايد عدد الضحايا

 وإذعان فحول الأطباء بالعجز عن العلاج

 وفشل التقنيات لدى " الدول المتقدمة " حتى في معرفة حقيقة الفيروس

لم يجد العالم الغارق من قبل في الملذات والمتلهي بأمور الحياة والرافض للمعتقدات من كافة الطوائف والأديان، مفرّاً من المسارعة إلى رفع الأكف نحو السماء والسجود على الأرض والتضرع إلى الله والتوبة من الذنوب والصلوات بمختلف الصور والأشكال، خاشعة القلوب لرب العالمين، متبرئة من الطغاة  والمستكبرين، لعل من ( بيده ملكوت كل شيء ) أن يلطف بالعباد، ويرفع البلاء فهو

( القاهر فوق عباده ) و ( على ما يشاء قدير ) وهو ( بعباده خبير بصير ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم