بيروت | Clouds 28.7 c

كيف يذهب العُمُر؟ بقلم الشيخ أسامة السيد

كيف يذهب العُمُر؟

بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 7 شباط 2020 العدد 1937

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((تبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيءٍ قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلُوكم أيُّكم أحسنُ عملاً وهو العزيز الغفور)) سورة الملك.

لم يخلُق الله سبحانه وتعالى الموتَ والحياة عبثًا ولا أوجدنا في الدنيا سدىً وإن من حكمة الله تعالى أن جعل دُنيانا ممرًا لا مقرًا، والآخرة هي المستقر وما الدنيا إلا مزرعة للآخرة فيجيد بعض الناس فيها الزرع فيحصدون الفوز يوم القيامة ويسيء البعض الآخر فيحصدون الندامة، وقد جعل ربُّنا للناس أمدًا يعيشون إليه فيبلُوهم في دنياهم أي يختبرهم، وهو أعلم بما يكون منهم، ليُظهر للناس الصالح من الفاسد فيحيا من حيَّ عن بينةٍ ويهلك من هلك عن بينةٍ، وإذا كان الأمر هكذا فينبغي لكلّ منا أن ينظر كيف يذهب العمر ليقدم لنفسه عملاً حسنًا يصحبه يوم الرحيل إلى الآخرة، فليست الغاية أن نعمُر الدنيا بنحو البناء والزراعة فحسب، وإنما الدنيا وإن طالت أيامها فقصيرةٌ وحياتنا فيها فرصةٌ لن تتكرر مرةً أخرى وربنا تعالى يقول: ((وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلا ليعبدون)) سورة الذَّاريات. أي إلا لآمرهم بالعبادة، فمن فهم هذه الحكمة فالتزم ما لزم عليه فقد افتكَّ نفسه من أهوال يوم القيامة، ومن لم يأبه لذلك واختار العمى على الهدى فقد اقترف إثمًا عظيمًا ولم يُراع الحكمة في مسيرته الدنيوية.

 

انظر كيف تعيش

وبالتالي جديرٌ بنا حيث منَّ الله علينا بنعمة الحياة أن نعرف كيف نعيشها وأن ننظر في برنامج يومياتنا لنُصحح مسارنا ونستفيد من أعمارنا فإن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، وعمرُ الإنسان لا يسع كل شيء فالعاقل من قدَّم الأهم على المهم، ومن لم يعرف قيمة العمر سهل عليه التَّفريط بأنفاسه، وربما اتفق لبعضنا أن يقف أحيانًا في آخر النهار متسائلاً: كيف قضيتُ هذا اليوم؟ وماذا كان نصيبي فيه من الخير؟ وبماذا أصبتُ وبماذا أخطأت في هذه الساعات التي انقضت من زماني ومزَّقت من أوراق أيامي؟ وكم أضعتُ منها سدىً بين لهوٍ ولعب أم ماذا قدَّمتُ فيها لنفسي وإخواني من نفعٍ وفائدةٍ وهل كنت قائمًا فيها بحقوق الله وحقوق عباده على وجه التَّمام أم قصَّرت في بعض الحقوق المتعلِّقة برقبتي؟ وكم ضيَّعتُ من تلك الساعات في تلك الأمسيَّة أو ذاك اللقاء بين لهوٍ ولعبٍ ومراءٍ وكم نقص من حياتي في تلك الرحلة وذاك السفر للاستجمام؟ وينتهي حسابنا بعد طرح ساعات النوم التي ينقضي في غفوتها ثلث العمر أو نصفه بأننا قضينا القليل فقط من الوقت في الجد والأعمال النافعة وذهب جزء كبير بلا طائل وهيهات فلن يعود.

وحريٌ بنا بعد هذه النتيجة أن نتذكَّر قول الله تعالى في سورة الحشر: ((يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدَّمت لغدٍ واتَّقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون)) والمراد بالغد الآخرة وقديمًا قالت العرب: كل آتٍ قريب، فالموت آتٍ والقيامة آتيةٌ وربنا تعالى يقول: ((اقترب للناس حسابهم وهم في غفلةٍ مُعرضون)) سورة الأنبياء. وقال أيضًا في سورة القمر: ((اقتربت الساعة)). قال السّمعاني في ((تفسيره)): ((وإنما سمَّى الساعةَ قريبة لأنها كائنةٌ لا محالة وكل ما هو كائنٌ لا محالة فهو قريب)).

فانظر أيها الإنسان فيما أنت فيه فإن كنتَ على خيرٍ فاستزد منه وإن كنتَ على شرٍ فتُب واعتدل فقد روى البيهقي عن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزول قدما عبدٍ (أي عن موقف الحساب) يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ عن عُمره فيما أفناه، وعن علمه ماذا عمل به، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)).

 

أيَّام العُمُر

ولو تأملنا في أقصى أعمار غالب الناس لوجدناها ما بين الستين إلى السبعين وهذه حقيقة تشهد بصدق قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلُّهم من يجُوز (يتجاوز) ذلك)) رواه الترمذي عن أبي هريرة. فالعمر إذًا قصيرٌ وهو يسير وهذا يستدعي من العقلاء محاسبة النفس ليتحقق لهم حملها على ما يُرضي الله وكفّها عن الشهوات المحرَّمة وما لا خير فيه، فقد روى الحافظ ابن الجوزي في كتاب ((حفظ العمر)) أن سيدنا عمر بن الخطاب قال: ((حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا وزِنُوا أنفسَكم قبل أن تُوزنوا فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تُحاسبوا أنفسكم اليوم وتزيَّنوا للعرض الأكبر)).

وإنما يتزين المرء ليوم العرض الأكبر بالعمل الصالح، ويُعين على الاستمرار في الأعمال الصالحة محاسبةُ النفس للاستفادة من الأعمار الذاهبة، فإن رأس مال الإنسان هذا العُمر ولقد قيل: ((الوقت من ذهب إن لم تصرفه في طاعة الله ذهب)). ثم إن مما يؤسف جدًا أننا نرى معظم البشر لو خسر أحدهم شيئًا من ماله يُكثر الحزن والتأسف بل لربما مرض جرَّاء ذلك، بينما يخسر أحدهم ما هو أهم من ذلك بفوات عمره فيما لا خير فيه فلا يُبالي، وقد روى البيهقي في ((الزهد الكبير)) عن الإمام الحسن البصري أنه قال: ((ابن آدم إنما أنت أيَّام فكلما ذهب يوم ذهب بعضك, ابن آدم إنك لم تزل في هدم عُمُرك منذ يوم ولدتك أمك)).

ومن كان عاقلاً اهتم لذلك لا سيما مع تقدم السنين وطروء الشيب فقد قال ربنا تعالى في القرآن الكريم: ((أولم نُعمِّركم ما يتذكر فيه من تذكَّر وجآءكم النذير)) سورة فاطر. قال النووي في ((رياض الصالحين)): ((قال ابن عبَّاسٍ والمحققون: معناه أولم نٌعمِّركم ستين سنة)). والمراد بالنذير النبي محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: النذير الشيب. فمن رأى الشيب يغزو رأسه فماذا ينتظر؟ وإذا ما كان الحرام والعبث منافيين للحكمة من الشباب فكيف من الشِّيبِ والشيوخ؟!

 والحمد لله أولاً وآخراً.  

 

الوسوم