بيروت | Clouds 28.7 c

محمد شحرور في ميزان العلم والدين / بقلم: محمد خليفة

محمد شحرور في ميزان العلم والدين

--------------------------------------

أحد رواد الاصلاح الفكري .. والتجديد الفقهي المعاصر مهما بلغت أخطاؤه فإيجابياته أكبر وأعظم

مدرسة "العلماء الفقهاء" أعرق من مدرسة " رجال الدين "

بقلم : محمد خليفة

مجلة الشراع 17 كانون الثاني 2020

 

 شغل المفكر الراحل د . محمد شحرور الناس قبل وبعد وفاته خلال ربع القرن الأخير , على كل المستويات , واحتل حضوره منابر الرأي جدالا وسجالا , لاجتهاداته وأفكاره , ومنهجه في التعامل مع النص القرآني اللغوي  البياني . ومن الملاحظ أنه منذ أن برز في اختصاصه تميز كمجتهد جريء لا في اكتناه النص القرآني وحسب , بل تعداه لاستنباط أحكام فقهية جديدة , مخالفة وصادمة لما هو سائد ومستقر بين الفقهاء الاصوليين , والعلماء المتخصصين في علوم الفقه والقرأن والعقيدة . وظهر له بفضل وسائل الاعلام والعولمة معجبون وأنصار , كما ظهر له خصوم ومعارضون سلفيون أشداء , ذهب بعضهم لمخالفته منهجيا واتهامه بقلة العلم , ولكن بعضهم وصلوا الى درجة التشكيك في صحة إسلامه وإيمانه , وفتشوا في صدره بحثا عن حقيقة نواياه ليسندوا أحكامهم عليه , وبعض هؤلاء علماء بارزون بمستوى المحدث ناصر الدين الألباني .

بيد أن ما تعرض له المفكر الراحل لا يعدو من منظور التاريخ الاسلامي أن يكون فصلا جديدا , وعابرا , من فصول الصراع بين مدرستين تاريخيتين , مدرسة الإصلاح الديني والتجديد الفكري , ومدرسة التقليد الفقهي التي يقودها ب(رجال الدين) .

 والواقع أن المدرستين قديمتان, ولكل منهما أنصار وخصوم , تعكسان حالة الصراع والتدافع المتواصل بين تيار الإصلاح الحضاري والإجتماعي والفكري العام الذي تفرضه مستجدات الحياة وتطورات العلم والعقل من ناحية , وتيار التقليد السلفي المحافظ من ناحية مقابلة . وهذا الصراع القديم ظاهرة نمطية ومفهومة رافقت كل الأديان والمذاهب , وظهرت في كل بلدان العالم من دون استثناء . ومن يتابع حركة التطور سيجد دائما أن تيار الاصلاح والتجديد غالبا ما يتغلب على التقليدي والرجعي تحت ضغط التطور الازلي الذي يشكل قانونا طبيعيا أو سنة الهية , وما تستوجبه حاجات الناس العملية في حياتهم اليومية , وسبل التكيف مع التغيرات العصرية , وهذه العناصر تمثل مجتمعة أهم ديناميات ومحركات ما يسمى عادة ( الاجتهاد الواقعي ) التي تحرك الإجتهاد والتجديد عدة قرون , وبلغت أوجها في القرون الوسيطة , على امتداد العالم الاسلامي من بغداد وأصفهان وبخارى وسمرقند وفارس الى القاهرة والزيتونة ومراكش وحتى الأندلس , بل وامتدت أشعة الحضارة في محيط العالم الاسلامي في افريقيا والهند , حيث برز فقهاء مجددون وعلماء بارزون في كل المجالات , إلا أن هذا الازدهار مال نحو الانكماش تدريجيا , فحل الجمود محل الابداع ودخل العالم الاسلامي بعامة عصرا من "الانحطاط " والظلام والتخلف السحيق الذي استمر قرونا .

" رجال الدين " طبقة اجتماعية من عصر الانحطاط :

----------------------------------------------

خلال هذه الحقبة الطويلة , شهد الفقه الاسلامي - كما بقية العلوم - جمودا وانزوى في زوايا الطرق الصوفية الموغلة بالسلبية والعزلة , وانحسرت الرعاية للعلم والاجتهاد , وتكرم العلماء وتقوي عوامل النهضة . بل أصبح الإجتهاد محرما أو محظورا ومعاقبا عليه , وعلى المجتهدين المجددين . واحتد الصراع بين مذاهب المدرستين , بسبب التخلف العام الذي اصاب الأمة بعد سقوط بغداد نتيجة الغزو المغولي ثم التركي , ثم سقوط قرطبة وطليطلة , إذ غاب تدريجيا الإبداع , واضمحل الازدهار المادي والفقهي والعلمي , ودخل المسلمون عصر الهيمنة العثمانية التركية المديد أيضا , وظهرت دول المماليك والطوائف الرجعية , حيث تحول الفقه الى اجترار أحكام وفتاوى بالية لا تجيب على أسئلة تلك العصور .

 وعندما بدات أشعة النهضة بالشروق مرة أخرى في القرن التاسع عشر كانت أشياء كثيرة قد تغيرت سلبا , في مقدمتها انفكاك العلوم الإسلامية عن بقية العلوم , إذ انفصل الفقه عن بقية محركات وديناميات التطور , ممثلة بعلوم الطب والرياضيات والاجتماع والموسيقى والفلسفة والفلك فضلا عن علوم اللغة . علينا تذكر أن العلوم الدينية لم تكن منفصلة عن العلوم المدنية والتطبيقية , وكان كبار الفقهاء علماء كبارا في الطب والفلسفة والفلك واللغة والفن والشعر .

 على سبيل المثال كان ابن رشد فقيها بارزا في عصره , وكان طبيبا وفيلسوفا وقاضيا وفيزيائيا , وسمي لذلك المعلم الثاني , أي بعد أرسطو المعلم الأول , وكان الكندي فيلسوف العرب الأول بارعا في علم الكلام والمنطق والفلسفة اليونانية والرياضيات والطب والموسيقى , وكان الشيخ الرئيس ابن سينا طبيبا وفيلسوفا وعالما ( ترك 240 كتابا ) ويلقب أمير الأطباء . والخوارزمي الذي يعد في هذا العصر الأب الأول للمعلوماتية والحاسوب .  وجابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء الأول .

كان الفقه عند هؤلاء العباقرة عقلانيا وعلميا , وهذا ما أسس حضارة العرب , وهو يشير الى أن العقل المسلم كان علميا ومنهج التفكير علميا , وكانت النظرة لكل الأمور بالضرورة نظرة علمية , لا متخلفة وغيبية . وعندما تخلفت العلوم عند العرب كان من الطبيعي أن يتخلف عقولهم الفقهية والدينية , ومعها علوم الشريعة .

تحرير الاجتهاد من سلطة رجال الدين :

----------------------------------

في العصور التالية وحتى اليوم ظلت العلوم الدينية حبيسة مدارس وجامعات دينية منعزلة عن الحداثة والعصر وتيارات الفكر العالمي ( الأزهر والجامعات السعودية واليمنية والمغربية ..إلخ ) وكان الخريجون لا يتقنون سوى حفظ القرآن ومدارس المذاهب الأربعة , والسنة النبوية والحديث الشريف , وفتاوى الفقهاء في العصور الاولى التي تحولت تراثا فقهيا ضخما يناسبها , ولا يناسب ظروف الحياة المعاصرة , ومتطلبات النهضة والتقدم . وتبعا لذلك ظهرت طبقة (رجال الدين) التي تحتكر المدارس والجامعات والمساجد والمؤسسات في الدول الحديثة , بما فيها مؤسسات الأوقاف التي تدر الأموال الوفيرة , وتلعب دورا اجتماعيا خطيرا في مؤسسات القضاء والأحوال الشخصية , والأوساط الاقتصادية والتجارية والمالية , مما أعطى طبقة ( رجال الدين) (سلطة شرعية ) قوية ذات حصانة تقليدية , تجعلهم ينافحون عنها ضد أي محاولة تهدد مكانتهم الاجتماعية ومصالحهم المادية , ووحدتهم روح الجماعة بينهم , مؤسسة مركز قوة تنافس سلطة الدولة ومراكز السلطة الاجتماعية المنافسة .

ومع تنامي التطور الحداثي في مجتمعاتنا العربية وارتفاع مستوى التعليم والعلوم , وتكون مجموعات ضغط ومراكز سلطة جديدة تضم علماء ومفكرين أكاديميين وحقوقيين وأدباء وفنانين ساهموا في دفع ديناميات التطور , وآليات التغير الاجتماعي والثقافي والاقتصادي . بحيث لم يعد ممكنا تجاهل حضورهم وقوتهم وتاثيرهم . وهنا تنبغي الاشارة للثورة الأزهرية التي أحدثتها ثورة يوليو في مصر , بإدخال العلوم الحديثة الى الأزهر . وهي ثورة أنهت القطيعة بين علوم الدين وعلوم العصر , فترتب على ذلك ظهور علماء في الفيزياء والطب والهندسة واللغة والبيولوجيا , يتجاوزون تخصصاتهم الضيقة , ويطبقون حصائل علومهم ومناهجهم الأكاديمية الحديثة في العلوم الدينية , وخاصة تاويل وتفسير القرآن الكريم . وظهر تدريجيا الإتجاه العقلاني والعلموي (علم العلوم) في حقول الأبحاث والدراسات الدينية المعاصرة . وبعد فترة وسيطة في القرن العشرين احتكرت طبقة الشيوخ ورجال الدين فيها سلطة الفقه والفتوى والحكم وسلطة التحريم والتحليل والتعليم وفق قواعد تعليمية ومدارس دينية رجعية تكرست في القرنين السابقين , وكرست تراثا دينيا وفقهيا , ونظما شرعية , اتسع نطاق ظاهرة المفكرين والعلماء المحدثين المجددين الذين يثورون على هذا الواقع الموروث , ويتمردون على سلطة رجال الدين , مستندين الى مذاهب ومناهج العلوم العصرية واكتشافاتها الكبيرة , وظهر من يقول إن وجود ( طبقة رجال الدين ) يخالف روح الديانة الاسلامية كالدكتور محمد النويهي , وقال إن مجرد تميز رجل الدين بلباس خاص شيء ينكره الإسلام الأصيل الذي جعل الدين مجالا مفتوحا لكل الناس بدون طبقة كهنوتية وسيطة بين المسلم والله . وبدأ علماء معاصرون يكسرون الخطوط الحمر لرجال الدين . ويخوضون في أمور الشرع وأحكام الفقهاء بمنطق علمي وعقلي لا بمنطق ديني (كهنوتي) , مثل الدكتور أحمد زكي المتخصص بالفيزياء الذي شكك في منتصف الستينيات بصحة كل ما ورد في صحيح البخاري , وأنكر (حديث الذباب) واشعل بذلك مواجهة عنيفة مبكرة بين أنصار المدرسة الدينية السلفية التقليدية الرجعية , وأنصار المدرسة العقلانية العلمية الحديثة . ثم اتسعت المواجهة مع ظهور محمد اركون ونصر حامد أبو زيد الذي تناول القرآن كنص لغوي خاضع للتطور العلمي , ثم ظهرت مدرسة (الاعجاز العلمي في القرآن) كمحاولة توفيقية بين العلم والقرآن , وتعرض مفكرون وأدباء وكتاب عديدون للقتل والنفي والسجن نتيجة تعديهم على ما يراه شيوخ الدين والشريعة بحسب الاتجاه السلفي .

 وبين نهاية القرن العشرين , وبداية القرن الحادي والعشرين تعززت قوة الاتجاه العلمي - الديني في الفكر العربي , واتسع حضوره وتمدده الى مجالات علمية إضافية , وتراجعت بالمقابل قوة الاتجاه المحافظ , وتقلص تأثيره في الحياة الفكرية والاجتماعية  , وتكاثر علماء التخصصات البيولوجية والهندسية والفلسفية والفيزيائية الذين ينتقلون لتطبيق علومهم على الدين بعامة والقرآن بخاصة .

شحرور أسس مدرسة ومنهجا :

---------------------------

الدكتور المهندس محمد شحرور واحد من هؤلاء العلماء المعاصرين الذين تحررت عقولهم من أغلال الفكر الغيبي السلفي , وبدأ مراجعته للموروث الفقهي بمنهجية وسطية , فلم يتناوله تناول المعادي والملحد والمستشرق , وإنما تناوله من داخله كمؤمن متسلح بعلوم الرياضيات والهندسة والمنطق المجرد . خصومه السلفيون الذين شككوا بأهليته لدراسة النص القرآني رأوا في نتاجه العلمي هرطقة وزندقة , لأنه لم يدرس العلوم الشرعية , ولم ينل الإجازة من شيوخ الأزهر , وشيوخ مكة , والقرويين , والزيتونة والشام , وهذه أقوى عصا يقمع بها التقليديون خصومهم . ولكن الشحرور لم يتراجع وواصل أبحاثه واجتهاداته متفرغا لمشروع قراءة النص القرآني قراءة معاصرة , كما قال . وركز رحمه الله على المنهج اللغوي العلمي تحديدا , ولا شك أنه توصل الى استنتاجات مهمة لم يسبقه لها أحد , رغم وفرة الفقهاء السابقين في تاريخنا وشراسة الحملات عليه وجد استقبالا ايجابيا واسعا من المتلقين , عبر الندوات والمحاضرات التلفزيونية والمباشرة , فأضحى ظاهرة جذابة في ساحة الفكر والعلم والدين , اكتسبت شرعيتها من تأييد كبار المثقفين والمتعلمين العصريين الذين تخرجوا من أرقى الجامعات العلمية الذين يتجاوز عددهم عشرات الملايين في العالم العربي , وعاشوا نوعا من الإزدواجية القاسية بين الدين والعلم , بين الغيب والواقع , بين السلفية والتقدمية , بين القديم والجديد . كما عاشوا حالة شك وتناقض ما بين إيمانهم وسلوكهم , ولم يعد رجال الدين السابقين قادرين على حل هذه التناقضات المستعصية . وأصبح شحرور وأمثاله ضرورة واقعية , ومدرسة اصولية تتسلح بالعقل والعلم والمنطق , وترفض الغيبيات والخرافات والأساطير التي تسللت الى متون التراث الديني عبر الف سنة .

صحيح أن ما قدمه شحرور ليس صحيحا دائما ومنزها , وهو لا يخلو من أخطاء وقصور أحيانا , ولكن المنهج الذي أسسه ورسخه صحيح بالتأكيد , ومغامرته الابداعية مشروعة وايجابية . فعباس محمود العقاد منذ خمسة وسبعين عاما توصل الى أن التفكير والاجتهاد في الإسلام فريضة وليست جريمة , والرسول يقول إن من اجتهد فأصاب فله أجران , ومن أخطأ فله أجر واحد . وشحرور اجتهد فأصاب احيانا وأخطأ أحيانا , ودشن جسرا علميا عصريا عقلانيا بين القديم والجديد , وبين العلم والعقل وبين الماضي والراهن , سيعبر عليه كثير من الأكاديميين والمثقفين الجدد مستقبلا , وسيعملون على معالجة التناقضات التي يعيشها المسلمون المعاصرون بين دينهم الذي ورثوه ودنياهم التي يعيشونها , ولا سيما من الأجيال الشابة , خلقت عقدا نفسية وعذابات يومية تؤدي للشك والعجز والانزواء , بسبب ايمانهم وشعورهم بالغربة والاستلاب ناتج  عن مخالفتهم الاضطرارية لأحكام الدين تحت ضغط التطور وحاجات المعاصرة . وإذا كان الإمام البخاري قد وقع في أخطاء فادحة وتبنى أحاديث لا تستقيم مع العقل والعلم والمنطق , ولم يكفره أحد , فلماذا لا يكون شحرور قد أخطأ وأصاب أيضا ؟! وأليس من الطبيعي أن يقع كل مجتهد ومفكر محدث في بعض الأخطاء .

لكن ما يحسب لشحرور وأمثاله أنهم أسسوا منهجا علميا جديدا , ومسارا إسلاميا عقلانيا علميا يعكس معطيات الحداثة ومنجزاتها ويعبر عن روح الحضارة الانسانية الحالية , قائما على المنطق والتفكير العلمي .

هؤلاء المجددون المسلمون ظاهرة تاريخية تتميز بالأصالة , فالله كما جاء في الحديث القدسي يرسل على رأس كل قرن من يجدد له دينه . وأعتقد أن جماعات التكفير والمشككين من ( رجال الدين ) التقليديين قد خسروا المعركة مع المجددين , وأن تيار المؤيدين والمشجعين يزداد اتساعا , ومنهج التوافق بين النص القرآني والعلم والعقل يزداد تجذرا ورسوخا , وهكذا فهؤلاء , ومحمد شحرور أحدهم هم رواد اتجاه تاريخي جديد لا يمكن وضعه إلا في مكانة مرموقة . 

 

الوسوم