بيروت | Clouds 28.7 c

((النموذج التونسي)) منهجاً لحل صراعات السلطة والثورات العربية / بقلم محمد خليفة

((النموذج التونسي)) منهجاً لحل صراعات السلطة والثورات العربية / بقلم محمد خليفة

مجلة الشراع 22 تشرين الثاني 2019 العدد 1926

 

*تونس تعزز استقرارها بالديمقراطية والاعتدال والتشاركية 

*الغنوشي رئيساًَ للبرلمان, ومستقل يرأس حكومة كفاءات تفادياً لفراغ حكومي وبرلماني يعطل الدولة

 

بقلم: محمد خليفة

مرة أخرى في غضون الشهور الثلاثة الأخيرة أضافت تونس الأسبوع الماضي نجاحين جديدين الى لائحة نجاحاتها السياسية, تمثلا في تجاوز نخبها السياسية استحقاقين خطرين بمبادرات مرنة, وسلاسة مدهشة, تفتقر لهما النخب العربية  في بلدان أخرى, تشهد صراعات عنيفة بين زمر السلطة والشعوب الساعية الى التغيير والاصلاح والحد من تغول السلطة والفساد, من الجزائر الى لبنان والعراق, وما سبقها من صراعات مدمرة للسبب نفسه،في دول أخرى, كسورية واليمن وليبيا.

الإستحقاق الأول: نجاح النخب السياسية بانتخاب رئيس حركة النهضة ((الاسلامية)) راشد الغنوشي رئيساً للبرلمان,بفضل صفقةلم تكن متصورة مسبقاً مع ((حزب قلب تونس)) الذي يتزعمه رجل الأعمال نبيل القروي المتهم بالفساد وغسيل الأموال والعلاقة مع شركات اسرائيلية وأميركية في اميركا وكندا.

الاستحقاق الثاني: ترشيح ((النهضة)) شخصية مستقلة هو الحبيب الجملي ليرأس حكومة كفاءات تقود البلاد في المرحلة القادمة, تضم وزراء مستقلين وسياسيين من الأحزاب كافة, بصرف النظر عن حجمها في البرلمان, تعمل على علاج التدهور الاقتصادي في البلد.

ولإدراك أهمية الإنجازين يتعين إيضاح أن كافة القوى السياسية كانت تعتقد أن البلد يتجه الى أزمات معقدة ومفتوحة, لأن الانتخابات العامة التي جرت في سبتمبر/ ايلول الماضي لم تحقق فوزاً ساحقاً لأي طرف, بل أنتجت برلماناً يتألف من كتل صغيرة الحجم , أكبرها كتلة ((النهضة بـ52 مقعداً)), يليها ((حزب قلب تونس 38 مقعداً)) و((التيار الديموقراطي 22 مقعداً)), و((إئتلاف الكرامة 21 مقعداً)) و ((حركة الشعب 16 مقعداً)) و((الحزب الدستوري الحر 17 مقعداً)) و((حزب تحيا تونس 14 مقعداً)). وذهبت التوقعات الى صعوبة اتفاق على رئيس للبرلمان مقبول من الجميع, نتيجة الخلافات الايديولوجية والسياسية بينها, فيما يحتاج أي مرشح لتأييد ((109)) نواب للفوز. وللسبب ذاته صعوبة الاتفاق على تشكيل حكومة تفوز بثقة الغالبية البرلمانية في وقت تزداد الحاجة لحكومة قوية تدعمها كل الاحزاب والكتل لمواجهة التدهور الاقتصادي.

كانت البلاد ذاهبة حتماً نحو فراغ سياسي وحكومي يعطلان البرلمان والحكومة, فكان لا بد من مبادرات إستثنائية, ومرونة شديدة, وسرعة تحرك.

-تحملت ((حركة النهضة)) بصفتها أكبر الأحزاب المسؤولية, فقامت بتناسي كل تحفظاتها, واتصلت بكل الأحزاب اليمينية واليسارية, بما فيها المعادية جداً لها, ودعتها للحوار والتعاون, على قاعدة الديموقراطية والمصلحة الوطنية, لانتخاب رئيس للبرلمان ومرشح لرئاسة الحكومة. بل إن رئيس الحركة الغنوشي زار بنفسه كل الأحزاب ساعياً لكسر الحواجز وفتح الحوار, وايجاد مخارج, فلم يوافق سوى حزب قلب تونس, فتمكن الطرفان اللذان تعهدا للناخبين بعدم التعاون بينهما, واتهما بعضهما بأكبر الكبائر, من الوصول لاتفاق محدود على دعم ترشيح الغنوشي لرئاسة البرلمان, عضو حزب قلب تونس سميرة الشواسي نائباً أول له. وسارت الأمور بهذا الشكل بدعم من بعض المستقلين, فنجا البرلمان الجديد من الشلل والفشل وإعادة الانتخابات. وأكد الطرفان أن صفقتهما تقتصر على انتخاب رئيس البرلمان جرت على قاعدة التعاون الاضطراري تحت قبة البرلمان, وأن اختلافاتهما بشأن القضايا الأخرى لم ولن تتأثر, وهي خلافات تصل الى درجة العداوة.

المبادرة بين الحزبين اللدودين فرضتها إرادة القدر الذي تحكم بنتائج الانتخابات وجعل هذين الطرفين الكتلتين, ونجحت المبادرة بفضل مرونة الطرفين وتقديمهما المصلحة العامة على المصلحة الحزبية.

-المبادرة الثانية الاستثنائية أيضاً تمثلت باتفاق الكتل الأربع الكبرى للالتفاف على معضلة الاتفاق على مرشح واحد, على تقديم كل منها مرشحاً مستقلاً عنها الى رئيس الجمهورية وتفويضه باختيار أحدهم لتكليفه بتشكيل حكومة كفاءات لا حكومة حزبية. وتنازلت النهضة عن حقها في التكليف الأول, ومحاولة تشكيل حكومة برئاستها, واختارت ترشيح مستقل ليؤلف حكومة كفاءات يختارهم من المستقلين إن شاء أو من الأحزاب إن شاء شرط أن يكون معيار الاختيار الكفاءة لا اللون الحزبي, أو مختلطة من الطرفين.

-رشحت ((النهضة)) المهندس الزراعي المستقل الحبيب الجملي الذي ينتمي لجهاز الدولة البيرقراطي والمشهود له بالكفاءة والاستقامة, وبمجرد ترشيحه وافق رئيس الجمهورية على تكليفه, ولقي ترحيباً من عدد من كتل ونواب البرلمان.

النجاح يقسم على الجميع

بهذه الطريقة التي تعكس روحاً وطنية ومسؤولة والتزاماً بالديموقراطية نجت الدولة من أزمة فراغ حكومي أيضاً, تقود حتماً هي الأخرى الى إعادة الانتخابات, كانت لو حدثت ستخلق شعوراً عاماً بفشل النخبة السياسية وتعطيل التجربة الديموقراطية, ظهرت مقدماتها بتعبير البعض عن شعورهم بالندم على إطاحة الديكتاتور السابق بن علي, متمنين العودة لعهده!.                 

هاتان التجربتان تضافان الى سلسلة ((انجازات ديموقراطية وسياسية)) حققتها التجربة التونسية في التغيير والإصلاح والانتقال للديمقراطية منذ نجاح ثورتها في مطلع 2011 وحتى اليوم, وفيما يلي تذكير بأهمها:

أولاً: اجتازت القوى السياسية والنقابية والمجتمعية المدنية عملية الانتقال من النظام السابق الى النظام الجديد بكل سلاسة وتعاون إيجابي بينها, ولم تحدث أي مشكلة, أو صراع عنيف واتخذت مؤسسات الدولة العميقة موقف الحياد, وعلى الأخص الجيش. واعترف قادة ورموز النظام السابق ((البزعي والسبسي مثلاً ..)) بالتغيير, وسلموا الدولة للمعارضة السابقة ممثلة بالإسلاميين والشيوعيين.

ثانياً : أجرت تونس بعد الثورة ثلاثة انتخابات عامة شهد المراقبون الدوليون بنزاهتها التامة, ولم تسجل فيها مخالفة واحدة. ووضعت الأطراف دستوراً عصرياً, وشاركت كلها في الحياة الديموقراطية الحزبية والسياسية والاعلامية بصورة نموذجية.  

 ثالثاً: أظهرت النخب السياسية مستوى عاليا من التعايش والتفاعل الايجابي بين التيارات والاحزاب كافة, اسلامية ويسارية, وليبرالية وقومية, وقبول كل طرف بالآخر, وقبول الجميع بالاحتكام لقواعد اللعبة السياسية والديمقراطية والبرلمانية . فحركة النهضة (الاسلامية) وهي كبرى الأحزاب بعد الثورة ساندت عام 2011 معارضاً ماركسياً لرئاسة الجمهورية, وساندت عام 2014 انتخاب السبسي رئيساً للدولة. وحينما وقعت أزمة 2013 بين النهضة وقوى يسارية وليبرالية بتأثير رياح الثورة المضادة في المحيط العربي, تنازلت عن حقها في الحكم, وقبلت بحكومة مستقلة, لتفادي صراع كالذي شهدته دول عربية عديدة. وبالمقابل يسجل للرئيس السبسي, وهو سياسي بورقيبي عتيد, ومعادٍ للاسلام السياسي, رفضه لضغوط خارجية استهدفت دفعه للانقلاب على حركة النهضة واقصائها من المسرح, وفضل التعايش معها ديمقراطياً لكي لا يتكرر الصراع المدمر.

رابعاً: عرفت تونس موجة من موجات التطرف الاسلامي, وظاهرة الجهاديين والدواعش, ووقعت عمليات عنف دموية, ولكن الدولة والقوى الحزبية والتيارات كافة لم تنجر لدوامة العنف وردود الأفعال وتجنبت الدخول في دوامة العنف وغلبت الحكمة والسياسة, فتمكنت من احتواء الظاهرة ومشتقاتها في أضيق نطاق.

خامساً: حافظت تونس على حيادها الإيجابي بين المحاور العربية, وحمت نفسها من آثار الحرب الليبية, والسياسة الجزائرية المعادية لثورات الربيع العربي منذ 2011, بفضل اعتدال كل الأطراف وعقلانيتها.     

  جذور تاريخية عميقة

بفضل هذه السياسة المتأصلة التي تمتد جذورها الى عقلانية إبن رشد وإبن خلدون وصولاً الى حداثة وإصلاحات خير الدين التونسي 1820 - 1890 أصبحت تونس ذات نموذج مميز, مختلف عن شقيقاتها وجاراتها العربية, فحركة النهضة مثلاً جزء من منظومة الاسلام السياسي واضطرت للانضمام للتنظيم الدولي للأخوان في بداية تسعينيات القرن الماضي, ولكنها ظلت مختلفة في اختياراتها ترفض السلفية التقليدية والجهادية, وتؤيد التحديث والعصرنة والديموقراطية, حتى أنها أيدت في البرلمان تشريعات مقترحة من أحزاب شديدة العلمانية والفرانكفونية بما فيها اقتسام التركات بين الذكر والانثى بالتساوي من دون تقيد بالنص القرآني الذي وضع قاعدة ((للذكر مثل حظ الأنثيين)), وغير ذلك من مواقف جريئة. وفي عام 2015 أعلنت انسحابها من تنظيم الأخوان الدولي بسبب الخلاف على العديد من المسائل.                

بفضل تلك المزايا المعتدلة وتجذر تيارات الحداثة والاصلاح غدت تونس استثناء حقيقياً وحيداً عن القاعدة التي ترسخ الصورة النمطية لأنظمة الحكم العربية القائمة على الاستبداد الشرقي المتحالف مع زمر الفساد الطفيلية, والزعم أن العرب لا يتقبلون الديموقراطية والحداثة ولا تناسبهم سوى الديكتاتورية.

 تونس تصنع اليوم ((النموذج العصري البديل)) ليكون نبراساً للعرب كافة, شعوباً وأحزاباً ودولاً ونظماً وقادة, في مرحلة تشهد دولهم توترات وصراعات مدمرة ودموية, بسبب الافتقار لثقافة الاعتدال, والحكم الرشيد, والديموقراطية والاصلاح الاجتماعي والفكري والسياسي. دور رائد لم يسبق لتونس في تاريخها القريب أن أدته بهذا المستوى من التأثير والإشعاع, يؤهلها أن تلهم وتهدي الجيران وذوي القربى, وتسهم في تنفيس الإحتقان والعنف والتمترس في السلطة, والافراط في استخدام العنف بحجة أنه لا بديل لهذا الزعيم, وليس بالامكان أفضل مما كان!

الوسوم