بيروت | Clouds 28.7 c

بدعٌ حسنةٌ أقرّها الرسول الكريم / بقلم الشيخ أسامة السيد

بدعٌ حسنةٌ أقرّها الرسول الكريم / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 1 تشرين ثاني 2019 العدد 1923

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((وافعلوا الخير لعلكم تفلحون)) سورة الحج.

لا ريب أن الله تعالى قد أرسل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم داعيًا إلى الخير هاديًا ومبشرًا ونذيرا فهدى به من كتب الله له السعادة الأخروية، وقد رغَّب نبينا صلى الله عليه وسلم بكل خيرٍ وحث على كل فضيلة وبيَّن للأمة قواعد الدين وأصول الأحكام، وما زالت أقواله وأفعاله وتقريراته الشريفة برهانًا لعلماء الأمة فيستنبطون من ذلك دقائق المسائل ويحتجون لها بما وفّقهم الله إليه من فهمٍ عظيم لنصوص القرآن والحديث، ومن ذلك تقسيمهم البدعة إلى حسنةٍ وسيئةٍ وقد سبق وتكلمنا في ذلك وأقمنا الدليل على صحة هذا التقسيم في مقالين متقدمين فليراجعهما مريدُ الحقيقة ليقف على سبيل السداد، ولكنني أردت في هذا المقال أن أقتصر فقط على ذكر بعض البدع الحسنة التي حدثت في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بأن أحدثها بعض الصحابة الكرام من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد نصَّ لهم على فعلها، ومع هذا تلقَّوها بالقَبول لأنها داخلة تحت القاعدة العامة التي أوضحها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه مسلمٌ عن جرير بن عبدالله البَجَلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عمل بها بعده من غير أن ينقُص من أُجورهم شيء ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وِزرُها ووِزرُ من عمل بها من بعده من غير أن ينقُص من أوزارهم شيء)). وحيث فهِم الصحابة الكرام من هذا الحديث وغيره جواز إحداث فعلٍ يوافق الشرع وإن لم يُنصَّ عليه نصًّا صريحًا لأنه موافق لقواعد الدين التي بنى عليها العلماء أقوالهم وفتاويهم فقد فعل بعضهم في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أشياء لم يُنصَّ على فعلها بعينها قبل إحداثهم لها، فمن ذلك:

سنُّ خبيب ركعتين عند القتل

روى البخاري وأحمد والطبراني وغيرهم حديثًا طويلاً عن أبي هريرة فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث سريةً عَينًا ((أي ليأتوه ببعض الأخبار)) إلى ناحيةٍ وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عُسْفان ((اسم موضع)) ومكة ذُكروا لحيٍ من هُذيل ((قبيلةٌ معروفة)) فتبعوهم بقريبٍ من مائة رامٍ حتى لحقوهم فأحاطوا بهم فقاتلوهم حتى قتلوا عاصمًا في سبعة نفرٍ بالنبل وبقي خُبيبٌ وزيد ورجلٌ آخر ((خبيب بن عدي وزيد بن الدَثِنَة صحابيان جليلان)) فأعطوهم العهد والميثاق ((أي عهدوا لهم أن لا يقتلوهم إن تركوا القتال)) فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا ((تمكَّنوا)) منهم حلُّوا أوتار قِسيِّهم ((جمع قوس)) فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهما: هذا أول الغدر. فأبى أن يصحبهم فجرروه وعالجوه ((أي حاولوا جَهدَهم)) على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بهما حتى باعوهما بمكة فاشترى خبيبًا بنو الحارث بن عامر بن نوفل، وكان خبيبٌ هو قتل الحارث يوم بدر، فمكث عندهم أسيرًا حتى إذا أجمعوا قتله ((اتفقوا على قتله)) فخرجوا به إلى الحرم ليقتلوه فقال: دعوني أصلي ركعتين. ثم انصرف إليهم ((توجه إليهم مخاطبًا لهم)) فقال: لولا أن تروا أن ما بي جزعٌ من الموت لزدت. وفي الحديث فكان أول من سنَّ الركعتين عند القتل هو.

ثم أنشد شعرًا جاء فيه:

ولست أبالي حين أُقتل مسلمًا                      على أي شقٍ كان لله مصرعي   

ثم قام إليه عُقبة بن الحارث فقتله.

قال ابن هُبيرة في ((الإفصاح)): ((فكان خبيبٌ هو من سنَّ الركعتين لكل امرئٍ مسلمٍ قُتل صبرًا ((أي حُبس للقتل حتى يُقتل)) وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أُصيبوا ((أي خُبيبٌ وأصحابه)) خبرهم)).

فظهر بهذا أن خُبيبًا قد فعل فعلاً رآه حسنًا موافقًا لقواعد الدين التي شرَعها الله وبيَّنها النبي صلى الله عليه وسلم ومع هذا لم يعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك بل أقرَّه.

بدعتان حسنتان

 وإذا علمتَ هذا فإليك زيادةً على ما مرَّ ما أخرجه البخاري في الصحيح عن رِفاعة بن رافعٍ الزَّرقي قال: ((كنَّا نصلي وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الرَّكعة قال: سمع الله لمن حمده، قال رجلٌ وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، فلمَّا انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا قال: رأيتُ بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)).

وقد وقع نظير هذا فيمن دعا قبل الشروع في الصلاة بما رآه حسنًا، فقد روى ابن حبَّان في صحيحه والحاكم في المستدرك وصحّحه ووافقه الذهبي وغيرهما عن سعد بن أبي وقَّاص أن رجلاً جاء إلى الصلاة والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بنا فقال حين انتهى إلى الصف ((وقف في صف المصلين)): اللهم آتني أفضلَ ما تؤتي عبادَك الصالحين ((أي دعا بهذا ثم دخل في الصلاة)). فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: من المتكلم آنفًا. فقال الرجل: ((أنا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذًا يُعقرُ جوادُك وتُستشهد في سبيل الله)).

فانظر إلى استحسان النبي صلى الله عليه وسلم لما زاده هذا الصحابي في عبادةٍ تُعدُّ أفضل الأعمال بعد الإيمان بالله ورسوله، واستحسان ما دعا به ذاك الصحابي، وقد ابتدع ذلك كلاهما لما رأيا من حُسن ذلك.

فإن قيل: ((كل هذا لا دليل فيه على البدعة الحسنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد شهد ذلك فأقرَّه فيكون سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن تقريراته كأقواله وأفعاله))، قلنا: لو كانت البدعة مذمومةً لمجرد كونها بدعة كما تقولون لنهى عن البدعة أولاً وحذَّر مما فعله هؤلاء الصحابة ثم أقر بعد ذلك ما قالوه أو فعلوه، لأنه لا يسكت على منكر فكان إقراره لكل ذلك إقرارًا بمشروعية البدعة الحسنة ابتداءً فليُفهم هذا.

 والحمد لله أولاً وآخراً.

الوسوم