بيروت | Clouds 28.7 c

عبد الناصر ومسألة الوحدة، قبله كان الحديث عنها تبشيرياً / بقلم: د. خالد الناصر

عبد الناصر ومسألة الوحدة، قبله كان الحديث عنها تبشيرياً / بقلم: د. خالد الناصر

تحل هذه الأيام الذكرى المئوية لميلاد جمال عبدالناصر الذي غيّرت ثورته مجرى التاريخ العربي الحديث، والذي ما يزال دائم الحضور في الأحداث العربية الراهنة، تستدعيه الجماهير العربية وترفع صوره في ميادين ثوراتها رغم ما يقارب نصف قرن على غيابه، معبرة بذلك عن استمرار إيمانها بمشروع التغيير الذي ناضل ومات من أجله.

ضمن هذا المشروع تمثل قضية الوحدة العربية ركناً أساسياً قدم عبدالناصر أرقى صياغاته الفكرية والنظرية في خطاباته والمواثيق التي صدرت خلال فترة حكمه وبالدرجة الأولى ميثاق العمل الوطني للجمهورية العربية المتحدة، وجسّد ذلك عملياً بدعمه المباشر والفعّال لثورات التحرر من الاستعمار على امتداد الوطن العربي بأسره، وقيادته للوحدة الرائدة بين سورية ومصر التي أنتجت الجمهورية العربية المتحدة نواة دولة الوحدة العربية الشاملة وحاملة راية النضال من أجلها حسب نص ميثاقها الوطني.

لقد كان الحديث عن الوحدة العربية والدعوة لها قبل عبدالناصر وثورته حديثاً تبشيرياً يفتقر إلى الوضوح في ما يتعلق بالطريق إلى تحقيق الوحدة العربية إذ تركزت جهود المفكرين القوميين الكبار كساطع الحصري وقسطنطين زريق على التأصيل الفكري للقومية العربية والكشف عن عواملها التي يتشارك فيها التجمع البشري الذي يسكن المنطقة الممتدة ما بين الخليج العربي شرقاً والمحيط الأطلسي غرباً وما بين جبال طوروس والبحر المتوسط شمالاً وبحر العرب والصحراء الأفريقية الكبرى جنوباً، وتجعله أمة واحدة يتوجب تجسيدها في دولة واحدة إسوة بالأمم الأخرى التي جسدت وحداتها قبلها.

ورغم أن تلك الجهود الجبارة لأولئك المفكرين القوميين الكبار قد خلقت وعياً قومياً واسعاً في شتى أرجاء الأرض العربية المجزأة، إلا أنه لم يكن هناك وضوح ولا معرفة بالقوانين التي تنظم العملية الوحدوية عموماً وفي الحالة العربية على وجه الخصوص، رغم توفر وجود تنظيمين قوميين تأسسا لهذا الغرض هما حزب البعث وحركة القوميين العرب، وظل الأمر هائماً يبحث عن المكان الملائم الذي ينطلق منه وعن البطل الذي يقوده ويحشد الجماهير باتجاهه حتى حدثت ثورة ٢٣ تموز/يوليو وظهر البطل المنشود وهو ما وصفه عبد الناصر أجمل وصف في كتابه ((فلسفة الثورة)). وللحقيقة لم يكن هذا صدفة وإنما هو نتاج اكتمال العوامل المطلوبة لانفتاح الطريق إلى الوحدة وإمكانية تحقيقها. فكما بيّن المفكر الكبير د. نديم البيطار في دراساته القيمة للتجارب الوحدوية في التاريخ وتطبيق ذلك على الحالة العربية فإن الطريق إلى وحدة أمة ما من الأمم يتطلب توفر أمرين أساسيين متفاعلين جدلياً وهما: الإقليم القاعدة الذي يجتذب الأجزاء الأخرى التي تتوزع عليها الأمة، والقيادة الكارزمية التي تستقطب أوسع جماهير الأمة وتحركها باتجاه العملية الوحدوية المنشودة. وبالطبع لا يحتاج المرء إلى كبير عناء ليتبين أن مصر هي الإقليم القاعدة بالنسبة للأمة العربية لأسباب كثيرة جغرافية وتاريخية وسكانية وثقافية أبدع في شرحها العالم الجليل د. جمال حمدان في سفره الخالد: ((مصر: عبقرية المكان))، ولكن فعالية هذه الحقيقة لا تظهر إلا عندما تعي مصر دورها ومسؤوليتها بفعل توفر القيادة التاريخية التي توقظها وتضعها في مكانها المطلوب كما حدث مرات عديدة عبر التاريخ، على سبيل المثال مع صلاح الدين والمظفر قطز ومحمد علي باشا، وأخيراً بشكل أكثر تحديداً مع جمال عبدالناصر.

وكما وفّر ظهور عبدالناصر كقيادة قومية تاريخية ووضعه مصر في سكتها الصحيحة كإقليم قاعدة الشروط المطلوبة للانطلاق في طريق الوحدة العربية، فإنه رسخ الشروط الأخرى التي تكفل لها النجاعة والدوام حين جعلها جزءاً من عملية النهضة العربية الشاملة المنشودة التي تشمل أيضاً تحرير كل الأجزاء العربية من ربقة الاحتلال والهيمنة الأجنبية وتشمل تحرير المواطن العربي من نير الاستعباد والاستغلال وتحقيق التنمية الوطنية التي تكفل للمجتمع العربي التقدم والازدهار وكفاية الانتاج وعدالة توزيعها على المواطنين بدلاً من التخلف والفقر. ولقد أفرد عبد الناصر لمسألة الوحدة العربية باباً كاملاً ما يزال يمثل أرقى ما أنتجه الفكر القومي العربي، جعل فيه القبول الشعبي لعملية الوحدة أساساً لنجاحها والدعوة السلمية لها وسيلة لهذا القبول والتدرج في الخطوات على طريقها بحيث يصبح تحقيق الجزء مقدمة لإنجاز الكل المنشود.

لم يقتصر دور عبدالناصر الهام والحاسم في مسألة الوحدة العربية على وعيه بدوره كقيادة قومية تاريخية وبدور مصر الذي طال غيابه كقاعدة للعملية الوحدوية، ولا على تأصيله النظري للشروط الواقعية المطلوبة لها وإنما وبشكل أكبر تجسيده العملي لهذا الدور وسعيه المستمر لتحقيق تلك الشروط ونضاله حتى رمقه الأخير لتظل الجمهورية العربية المتحدة حاملة رايات الوحدة العربية حتى اكتمالها.

ومنذ الأيام الأولى لانطلاقة ثورة 23 تموز/يوليو كان هذا التصميم واضحاً لدى جمال عبدالناصر حين شكل فريقاً متفرغاً للشؤون العربية يدرس أوضاع وظروف كل الأقطار العربية ولا سيما التي ما تزال رازحة تحت نير الاستعمار وكلفه بالقيام بزيارات ميدانية لها والاتصال بنخبها وفعالياتها ووضع الخطط للتحرك فيها ومساندة ثوارها، ولا يتسع المجال هنا للتفصيل في تلك الجهود الكبيرة والكثيرة والدؤوبة التي جرت وننصح بالرجوع إلى الكتب التي أصدرها فتحي الديب الذي كان مسؤولاً عن ذلك النشاط لنتبين الدور العظيم الذي أدته مصر عبد الناصر في دعم ثورات التحرر في كل الأجزاء العربية وإيقاظ الوعي القومي العربي لدى طلائعها وتوحيد أفكارهم وجهودهم لخلق الأرضية المشتركة والصالحة للحركة الوحدوية.

وكان إنشاء إذاعة صوت العرب عام 1953 خطوة كبرى في هذا الاتجاه كان لها أكبر الأثر في إيقاظ الجماهير العربية من أقصى الأصقاع العربية إلى أقصاها وربطها بقاعدة الحركة العربية مصر وقيادتها التاريخية.

وجاءت معركة العدوان الثلاثي عام 1956 لتكون البوتقة التي صهرت المشاعر العربية في كل أرجاء الوطن الكبير واستنفرتها للدفاع عن كنانة الأمة وقيادتها وكرست مصر قاعدةً للنضال العربي وعبدالناصر زعيماً للأمة، وأطلقت زخماً هائلاً لتحقيق الحلم العربي فكانت ولادة الجمهورية العربية المتحدة عام ١٩٥٨.

بقيام الوحدة ما بين مصر وسورية تأكدت حقيقة يمكن اعتبارها قانوناً نوعياً مختصاً بالمنطقة العربية يضاف إلى قوانين توحيد الأمم التي تحدث عنها نديم البيطار في أبحاثه، وهي أن أي مسعى توحيدي في هذه المنطقة لا يمكن أن يكون قاطرة قادرة لتوحيد الأمة العربية وحاملاً لمشروع نهضتها من جديد ومدافعاً عن أمنها القومي ما لم يرتكز على التحام مصر وسورية وانخراطهما فيه.

هذه الحقيقة تكررت مراراً على امتداد تاريخ هذه المنطقة، فتحرير بيت المقدس وكسر الصليبيين في معركة حطين لم يتحقق إلا بعد توحيد مصر وسورية على يد صلاح الدين الأيوبي، ودحر الاجتياح المغولي للمنطقة العربية تم على أرض الشام في معركة عين جالوت على يد جيش مصر بقيادة المظفر قطز، كذلك فإن محمد علي بعد استتباب حكمه في مصر عندما أراد بناء مشروعه النهضوي في النصف الأول من القرن التاسع عشر أدرك أنه لن يكتمل إلا بتوحيد المنطقة وكان بديهياً أن يبدأ بضم سوريا على يد ابنه ابراهيم باشا.

لقد أثبتت وحدة مصر وسورية واستمرار دولتها لأكثر من ثلاث سنوات ونصف أن تحقيق الوحدة أمر واقعي وممكن، وتوفرت فيها كل الشروط العامة والخاصة المطلوبة التي ذكرناها آنفاً، واستندت إلى تأييد شعبي جارف ليس فقط في إقليمي الجمهورية العربية المتحدة وإنما في كافة أرجاء المنطقة العربية الأمر الذي أكد أنها كانت البداية الفعلية الملائمة باتجاه الوحدة العربية الشاملة. بل إن الاستنفار الهائل للقوى الاستعمارية وللقوى المضادة الخارجية والداخلية، وحتى نجاح هذه القوى في فصم عرى هذه الوحدة، يؤكد صحة هذه الخطوة. ومنذ ذلك التاريخ أصبحت تلك التجربة الرائدة دليل العملية الوحدوية في الزمن العربي القادم، وأصبحت المبادئ التي أرساها جمال عبد الناصر أسس بنائها.

 

د. خالد الناصر

مؤسس التيار الشعبـي الحر في سورية

 

جمال في سورية أيام الوحدة مع الجماهير

الوسوم