بيروت | Clouds 28.7 c

الحكمةُ ضالَّةُ المؤمن /بقلم الشيخ أسامة السيد

الحكمةُ ضالَّةُ المؤمن /بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 26 تموز 2019 العدد1910

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:((يؤتي الحكمةَ من يشاء ومن يُؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيرًا كثيرًا وما يذَّكر إلا أُولوا الألباب)) سورة البقرة. لا شك أن من خير ما يؤتاه الإنسان في دنياه الحكمة في أقواله وأفعاله وذلك بفعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على النحو الذي ينبغي، فالحكمة نورٌ عظيم يُقذفُ في القلب يحمل صاحبه على الاستقامة والسداد.

قال الرازي في ((تفسيره)): ((واعلم أن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل ولا يُسمى حكيمًا إلا من اجتمع له الأمران، وقيل: أصلها مِنْ أحكمتُ الشيء أي رددته فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل ووضع كل شيءٍ في موضعه)). وحيث عُلم هذا فإن الحكمة صفةٌ تمنع من الجهل والسَّفه، فالحكيم العالم المتقن للأمور وصاحب الحكمة يتسم بالذكاء وحسن التدبير لشؤون نفسه وأهله وأصحابه بل وشؤون السياسة والقضاء وتعهد مصالح الناس وما يُناط به من أعمال.

الاقتداء بالأنبياء

ولا شك أن الحكماء في الناس قلة ولكن مضى في الدهر حكماء عظام، وأعظم من أوتي الحكمة أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. وقد أمرنا ربنا تعالى بالاقتداء بالأنبياء فقال في سورة الأنعام: ((أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)). ولا شك أن الاقتداء بالأنبياء عليهم السلام عين الحكمة، فإن الله تعالى قد أرسلهم رحمة للناس وأمر بطاعتهم فقال تعالى في سورة النساء: ((وما أرسلنا من رسولٍ إلا ليُطاع بإذن الله)) وحيث جعل الله السلامة في اتباع الأنبياء والحكيم من يسعى في سلامة نفسه بافتكاكها من عذاب الله فإن الحكمة في تعاليم الأنبياء. فمن أرادها فليطلبها في إرشاداتهم التي ورثها عنهم الأئمة الصالحون وما زالوا يُخرجونها للناس في أبهى معانيها، وإن الحكمة تُكتسب ويمكن للمرء إذا ما كان ذا عقلٍ واعٍ ونظرٍ ثاقبٍ فصحب العلماءَ الأخيارَ واستفاد من هديهم الموروث عن الأنبياء عليهم السلام أن تتفجر منه ينابيع الحكمة فيظهر ذلك في أقواله وأفعاله، ولذلك فإن الحرص على صحبة أهل العلم والنظر في كتبهم للاطلاع على علومهم المستمدة من الكتاب والسنة ومعرفة سيرتهم للوقوف على محاسن أحوالهم الراقية ببركة اقتدائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم من المهمات العظيمة. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالاً فسلَّطه على هلَكَته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلمُها)) والمراد بالحسد هنا الغِبطة وهو أن يتمنى مثله من غير تمني زوال النعمة عن صاحبها والعمل بمقتضى ذلك، ومعنى ((فسلّطه على هَلَكَته)) أي على إنفاقه في الحق أي في وجوه البر، والمراد بالحكمة العلم النافع فهو يفصل بها بين المتخاصمين إن كان قاضيًا والمستفتين إن كان مفتيًا ويعلّمها الناس.

من حِكم لقمان عليه السلام

ونتيجة الاقتران بأهل الفضل التأثر بما هم عليه من الفضل وحسن الحال، فإذا ما صحبهم المرء وصبر على المثابرة في ملازمتهم بقصدٍ حسنٍ فاحت منه عطور الحِكم المسكية المقتبسة من تراث الأنبياء عليهم السلام. وما زال الناس قديمًا وحديثًا يذكرون لقمانَ عليه السلام وحكمتَه، وهو رجلٌ صالحٌ صحب الأنبياءَ واستفاد منهم، وكان يقضي في بني إسرائيل حتى بعث اللهُ نبيَّه داود عليه السلام فترك لقمانُ القضاء، فكُلِّم في ذلك فقال: ((ألا أكتفي إذ كُفيت)). قال الله تعالى: ((ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله ومن يشكر فإنما يشكرُ لنفسه)) الآية سورة لقمان. والمعنى أن الله تعالى وهَبَ لقمانَ عليه السلام الحكمةَ وأمره بالشكر أي بشكر ربه العظيم على ما آتاه، لأن شكر الله على الحكمة لمن كان من أهلها هو من الحكمة، قاله الطبري في ((تفسيره)). وفي ((تفسير السمعاني)) أنه قيل للقمان عليه السلام: بم بلغتَ ما بلغت ((أي من رِفعة القَدْر)) فقال: ((بصدق الحديث وأداء الأمانة وتركي ما لا يعنيني)). وجاء في كتاب ((الإحياء)) للغزالي أن لقمان عليه السلام قال لابنه يومًا ((يا بُني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يُحيي القلوب بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء)). فعلى المرء أن يعتني بتهذيب نفسه ويطلب الحكمة من أهلها ويعمل بها، بل ينبغي أن تؤخذ الحكمة حتى وإن صدرت عمن لا يُعرفون بها، فلربما خرجت الحكمة أحيانًا من أفواه أناسٍ لم ينشأوا في مجتمعٍ علمي ولم يُعرفوا بجودة الرأي ولا بصحبة أهل الفضل أو هم أعداء لمن سمعها منهم، ولكن لا ينبغي أن يمتنع المرء عن قبولها والعمل بها لأجل ذلك فيفوّت على نفسه ما هو أحوج إليه من الطعام والشراب.

ابحث عن الحكمة

في سنن الترمذي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحكمة ضالّةُ المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها)) فالتحلي بالحكمة من خصال الخير وليس من الحكمة تركُ الحكمة بل ينبغي أن يوطد المرء نفسه على الاستفادة منها حيث وجدها سواءٌ أتت من صديقٍ أم عدو. هذا ومن أروع ما قيل في تلخيص الحكمة قديمًا: ((إذا أردتَ أن تكون حكيمًا فلا تصدّق كلَّ ما تسمع، ولا تقل كلَّ ما تعلم، ولا تفعل كلَّ ما تستطيع)).

وقال العراقي في ((طرح التثريب)): قال النووي: ((والحكمة ُكلُّ ما منع من الجهل وزجر عن القبيح)) فحيث انتفت الحكمة إذًا من قلب المرء كثر غلطُه وزاد شره، وحيث ازدان قلبُ المرء بالحكمة كان خيرُه عظيمًا جدًا وطال نفعُه الأهلَ والمجتمعَ والأمة، فقد روى البخاري عن ابن عباس قال: ((ضَمَّني النبي صلى الله عليه وسلم إلى صدره وقال: اللهم علِّمه الحكمة)) وقد استجاب الله دعاء نبيه عليه الصلاة والسلام في ابن عباس فما زال الناس يستفيدون من حِكمه وعلومه إلى يومنا هذا، فلنعتن إذًا بتهذيب أنفسنا فإن الحكمة تُكتسب.

والحمد لله أولاً وآخراً.  

الوسوم