بيروت | Clouds 28.7 c

سياسة جديدة لـ بوتين هدفها إزاحة أميركا عن عرش العالم وتنصيب روسيا مكانها / بقلم: د. احمد الزين

سياسة جديدة لـ بوتين هدفها إزاحة أميركا عن عرش العالم وتنصيب روسيا مكانها / بقلم: د. احمد الزين

مجلة الشراع 31 ايار 2019 العدد 1903

 

تخوض روسيا مع الولايات المتّحدة حربًا تتجلّى تداعياتها في مختلف الصراعات العالميّة من سورية إلى ليبيا إلى إيران. وبطبيعة الحال فإنّه لا بدّ ان تكون لهذه الحرب مفاعيل داخليّة لدى الجانبين الرّوسي والأميركي. ولا ننس في هذا المجال كيف استطاعت أميركا من خلال حربها الناعمة على الاتّحاد السّوفياتي أن تفكّكه وتلغي دوره الّذي كان له على المستوى الدّولي، لتتفرّد هي في حكم العالم.

من هنا فإنّه لا بدّ أن يترافق العمل على إضعاف أميركا على المستوى الدّولي مع نشاط روسي يضع في سلّم أولويّاته إضعافها من الدّاخل، فكيف يمكن أن يتمّ ذلك؟

في هذا الإطار تعمل روسيا على عناصر متعدّدة منها:

أ- إظهار المسؤوليّة الأميركيّة عمّا يجري في العالم من حروب، تصطلي بنيرانها دول عدّة.

ب- العمل على تغذية الروح الانفصاليّة لدى الأميركيين ذوي الأصول الإفريقيّة والّذين عانوا في الأصل وما يزالون من التمييز العنصري ضدّهم.

ج- العمل على تعزيز النّزاعات العرقيّة والدينيّة والاجتماعيّة في الدّاخل الأميركي.

د- العمل على تعزيز الاتّجاهات الانعزاليّة في السياسة الأميركيّة.

لعلّ الأميركيين يجهلون ما يخطّط له الكرملين من إزاحة للولايات المتّحدة عن موقعها كقوّة عظمى وحيدة تحكم العالم وتتحكّم بمصائر شعوبه، أو لعلّهم يدركون ذلك لكنّهم لا يرون في روسيا أكثر من قوّة إقليميّة محدودة التأثير على مستوى العالم ويرون في مهاجمتها لبعض الدّول الصّغيرة المحيطة بها كأوكرانيا مثلاً دليل ضعف لا مؤشّر قوّة. وحتّى تدخّلها في سورية لا يرون فيه أكثر من معيق لمخطّطاتهم الّتي يمضون بها رغم كلّ شيء، وما لا يحقّقونه بالقوّة الصّلبة يستطيعون تحقيقه بالقوّة الناعمة.

هم يرون الأمور من هذا المنظار وهم حكمًا مخطئون في رؤيتهم المغرورة تلك، إذ إنّ غزو روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 لم ينطلق من موقف ضعيف بل هو خطوة في طريق استراتيجي روسي يهدف للسيطرة على العالم. والحقيقة أنّ الرّئيس الرّوسي لا يسير في هذا المجال على غير هدىً بل ينتهج سياسة وضعها عالم سياسي معروف هو الكسندر دوجين في كتاب صدر له عام 1997 تحت عنوان: ((أسس الجغرافيا الحديثة)) وقد حظي هذا الكتاب بأهمّيّة كبرى لدى بوتين حتّى أنّه فرض على كلّ ضابط روسي يتمتّع برتبة عسكريّة فوق رتبة عقيد أن يقرأ هذا الكتاب. ورغم ذلك فإنّ الغرب يتجاهل هذا الكتاب على أهميّته الاستراتيجيّة، حتّى أنّه لم تتمّ إلى الآن ترجمته إلى اللغة الانكليزيّة.

في كتابه يعمد ديوجين إلى امتداح الدّور الرّوسي زمن القيصريّة والستالينيّة، كما يؤكّد صوابيّة أيديولوجيّة ((البلشفيّة الوطنيّة)) الساعية إلى دمج القوميّة الرّوسيّة بعناصر متعدّدة هي الاشتراكيّة البلشفيّة، والمسيحيّة الأرثوذكسيّة الشّرقيّة، والتّصوّف.

هكذا فإنّ هذا الكتاب يعتبر بمثابة وثيقة تساعد في التّنبؤ بالخطّ الّذي ينتهجه بوتين في إطار السياسة الدّوليّة. ولعلّ فيه ما يشير إلى الهدف الّذي تعمل عليه روسيا وهو إزاحة الولايات المتّحدة عن عرش العالم وتنصيب نفسها قوّة عظمى قادرة على أن تحلّ محلّها فهل هذا ممكن؟ وكيف؟

بالنّسبة للقوى العظمى، يبدو العالم مثل رقعة الشّطرنج، وبقدر ما تنتهج أيّ قوّة سياسة ذكيّة بقدر ما تسيطر على مفاصله فما هي السياسة الّتي تنتهجها روسيا بوتين؟

أوّلاً: محور موسكو برلين

 تنقسم القوى ذات التّأثير على مستوى العالم بين برّيّة كألمانيا وإيران وروسيا ((دول أوراسيّة)) وبحريّة، هي الولايات المتّحدة وبريطانيا ((حلف الأطلسي))، وهاتان القوّتان تعيشان صراعا قويًّا ومعقّدًا، ومن وجهة نظر روسيّة فإنّه ينبغي لأوراسيا أن تهزم حلف شمال الأطلسي، ولن يتمّ ذلك دون إقامة حلف يناصب أميركا العداء ويضمّ دولا مثل ألمانيا وإيران واليابان والصّين. ومن هذا المنطلق فإنّه ينبغي لروسيا أن تعمل في خطوة أولى على إنشاء اتّحاد روسي ألماني ينطلق من فكرة العداء لأميركا. هذا التّحالف إن نشأ سيكون قادرًا في فترة قصيرة على السيطرة على أوروبا الشرقيّة، ولا يخفى على كثير من المحلّلين السّياسيّين أنّ من يحكم أوروبا الشرقية قادر على حكم أوروبا وآسيا والعالم أجمع، وقد صرّح بمثل ذلك العالم الجيو-سياسي المعروف ((هالفورد ماكينيدز)) في محاضرة له ألقاها عام 1904 تحت عنوان ((المحور الجغرافي للتّاريخ)). وبناء على هذه النّظريّة الّتي يتبنّاها الكثير من الجيوسياسيين الرّوس في العصر الحديث من أمثال ((نيكولاي كلوكوتوف)) و((دوغين)) فإنّ تحالفًا روسيًّا ألمانيًّا يسيطر على أوروبا الشّرقيّة سيكون قادرًا دون شكّ على مجابهة أميركا وبريطانيا، ، هكذا تستطيع روسيا توحيد أوروبا، وإقامة علاقات ودّيّة مع أوروبا الوسطى في ظلّ محور موسكو- برلين، والحقيقة أنّ مثل هذا الأمر لن يكون مستحيلاً، خصوصاً وأنّ لدى ألمانيا قابليّة للانضمام إلى تحالف روسي  يضمن لها سيطرة سياسيّة على الدّول الكاثوليكيّة والبروتستانتيّة في أوروبا. ومن هذا المنطلق فإنّ أحد أهداف روسيا هو ضم الدّول ذات الأغلبيّة الأرثوذكسيّة الشّرقيّة مثل بلغاريا وجورجيا ورومانيا وأوكرانيا..  وقد كانت في وقت سابق تدور في فلك الاتّحاد السوفياتي..

وتحقيقًا لذلك قام بوتين بغزو جورجيا عام 2008 وأوكرانيا عام 2014 وكذلك قام بضمّ روسيا البيضاء وكازاخستان عام 2015.  ولا ننس في هذا الإطار قيامه بضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014               

كلّ  ذلك سيكون بلا شكّ عاملاً قويًّا يعزّز فرص قيام امبراطوريّة روسيّة تستطيع من خلال العمل مع بعض القوى في أوروبا وآسيا على تقويض الهيمنة الأميركيّة على العالم..

ثانياً: محور موسكو-  طهران

تدرك روسيا، بلا شكّ، ما تتمتّع به إيران من نفوذ عظيم في منطقة الشّرق الأوسط، كذلك تدرك أنّ إيران بشكل خاص والعالم الإسلامي بشكل عام لا يتوافقان على المستوى الرّوحي مع التّوجّهات الأميركيّة، وبالتّالي فإنّ هذا العالم مرشّح ليكون صديقًا طبيعيًّا للامبراطوريّة الأوراسيّة، في حال نشوئها.

من هنا يحرص بوتين على مساعدة إيران في مواجهة التّحدّيات الّتي تفرضها أميركا عليها، كذلك فقد عمل معها على إعاقة المشاريع الأميركيّة في الشّرق الأوسط عبر دعمه للرّئيس السّوري بشّار الأسد وتثبيته على رأس السلطة في سورية.

إنّ تحالفًا روسيًّا- إيرانيًّا سيحقّق لروسيا هدفًا استراتيجيًّا لطالما أرادت تحقيقه بشدّة ألا وهو الوصول إلى المياه الدّافئة في المحيط الهندي. وبالتالي فإنّه سيكون عاملاً مساعداً في إيجاد موطئ قدم ثابت لروسيا في منطقة استراتيجيّة مهمّة للولايات المتّحدة هي الشّرق الأوسط..

ثالثاً: محور موسكو- طوكيو

لا شكّ أنّ اليابانيين لم ينسوا ما فعله الأميركيّون بهم إبّان الحرب العالميّة الثانية في هيروشيما وناغازاكي، فالإبادة الجماعيّة الّتي قامت بها أميركا في هاتين المدينتين ما تزال ماثلة في أذهان اليابانيين والعالم أجمع، وبالتالي فإنّه من السهل إثارة مشاعر الكره لأميركا في هذه المنطقة من العالم وهو أمر يسهل القيام به.

ومن هذا المنطلق فإنّه سيكون من السّهل إقامة تحالف روسي-  ياباني، على قاعدة العداء لأميركا وسحب البساط من تحتها في منطقة الشّرق الأقصى.

رابعًا: محور موسكو- بكين

يرى المحلّلون الرّوس في الصّين قوّة تنمو بشكل مضطرد ومتسارع، وهي في نموّها هذا قادرة على أن تشكّل تهديدًا للسيطرة الروسيّة على سيبيريا، على المدى الطّويل، لكنّهم في الوقت نفسه يرون فيها حليفًا يمكن التّعاون معه على المستوى المنظور لدحر الهيمنة الأميركيّة. وفي حال استطاعت ألمانيا المتعاونة مع روسيا، السيطرة على أوروبا، واستطاعت إيران المعادية لأميركا والمتحالفة مع روسيا كذلك أن تحكم سيطرتها على منطقة الشّرق الأوسط، واستطاعت اليابان التّحرّر من الهيمنة الأميركيّة. فإنّ السيطرة الصينيّة على شرق آسيا ستشكّل المسمار الأخير في نعش الهيمنة الأميركيّة على العالم، وستكون روسيا بالمقابل في موقع القوّة القادرة من خلال تحالفاتها الاستراتيجيّة أوّل المرشّحين لملء الفراغ الّذي سيحدثه تراجع الهيمنة الأميركيّة على العالم..

ختاماً، واقع الحال أنّ الأميركيين سيكونون سذّجًا إذا افترضوا أنهم وحدهم يملكون القدرة على زعزعة استقرار البلدان وتقويض بنيانها، فلربّما تكشف الأيّام أنّ هنالك من تعلّم اللعب ولربّما نعيش لنرى بوتين يحرّك آخر خيوط اللعبة العالميّة، فتسقط أميركا كما سقطت عبر التّاريخ أمبراطوريات كانت أشدّ منها قوّة وأثراً في الأرض. ومن يعش ير.

د. احمد الزين

الوسوم